رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة المغربية لتحسين جودة التعليم وتوسيع قاعدة التمدرس، لا يزال الهدر المدرسي أحد التحديات الكبرى التي تعيق تحقيق تعليم شامل ومنصف للجميع. فهذه الظاهرة، التي تتمثل في انقطاع التلاميذ عن الدراسة قبل استكمال المسار الدراسي الإلزامي، تُعد نزيفاً تربوياً واجتماعياً يهدد مستقبل الأجيال ويفرغ المدرسة من رسالتها الحقيقية.
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن عشرات الآلاف من التلاميذ، وخصوصاً في الوسط القروي، يغادرون مقاعد الدراسة سنوياً، لأسباب متعددة تتداخل فيها العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، والبيداغوجية. فالظروف المعيشية الصعبة، وتفشي الفقر، وبعد المدارس عن أماكن السكن، كلها عوامل تؤثر سلباً على استمرارية التعلم. كما أن ضعف التحفيز داخل الفصول الدراسية، والبرامج الدراسية التي لا تراعي خصوصية المتعلم، تؤدي إلى فقدان الدافعية، ما يدفع بعض التلاميذ إلى الانسحاب من المدرسة.
ولا يخفى أن الفتيات في المناطق القروية هنّ من أكثر الفئات عرضة للهدر المدرسي، بفعل نظرة اجتماعية تقليدية تحدّ من فرصهن في مواصلة الدراسة، بالإضافة إلى غياب النقل المدرسي أو المرافق الصحية المناسبة، ما يفاقم الوضع.
ورغم إقرار عدة برامج ومبادرات لمحاربة هذه الظاهرة، مثل "برنامج تيسير" للدعم المالي المباشر للأسر، وتوسيع شبكة الداخليات، وإنشاء مدارس جماعاتية، إلا أن آثارها تبقى محدودة إذا لم ترافقها إصلاحات هيكلية تعيد للمدرسة جاذبيتها وتضمن استمرارية التعلم.
ولمحاربة الهدر المدرسي بفعالية، من الضروري اعتماد مقاربة مندمجة تشمل:
إرساء نظام إنذار مبكر لاكتشاف المتعثرين دراسياً قبل الانقطاع.
إدماج أنشطة تربوية وفنية ورياضية تجعل المدرسة فضاءً جذاباً.
تكثيف التوجيه المدرسي والمهني من سن مبكرة.
إشراك الجماعات المحلية والمجتمع المدني في تتبع حالات الانقطاع.
تحسين ظروف العمل والإقامة في العالم القروي (نقل، مطاعم، داخليات).
إن استمرار الهدر المدرسي هو مؤشر على اختلال في العدالة التربوية والاجتماعية، ولذلك فإن التعامل معه لا يجب أن يكون مجرد رد فعل، بل سياسة وطنية ترتكز على الإنصاف والتكافؤ في الفرص.
خاتمة:
إن القضاء على الهدر المدرسي ليس مجرد إنقاذ لتلميذ من الضياع، بل هو استثمار في الإنسان والمجتمع. فكل مقعد دراسي يُسترجع هو نافذة جديدة نحو التنمية والتغيير. والمدرسة المغربية، لكي تنهض بدورها الحقيقي، مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تكون حضنًا حقيقيًا لجميع المتعلمين، دون إقصاء أو تهميش.