منذ الاستقلال، وعدت حكومات المغرب المتتالية بالتقدم والرق وترسيخ العدالة الاجتماعية. ومع أن البلاد استثمرت بشكل هائل في البنية التحتية اللامعة في الثلاثة عقود الأخيرة -طرق سريعة، موانئ، مطارات، ترامواي، وحتى قطارات عالية السرعة- فان وراء هذه الواجهة من الحداثة يكمن أعمق جرح في المغرب: انهيار التعليم.
على كل المستويات، النظام منهار. المدارس العمومية، التي كانت يومًا سلمًا للارتقاء الاجتماعي، تحولت الآن إلى قواقع مهجورة. الأسر التي تستطيع تتحول إلى المدارس الخاصة، بينما الأغلبية محكوم عليها بالذهاب إلى مؤسسات لا تُعلّم حتى الأساسيات. وفقًا لاختبارات 2022 PISA الدولية، احتل المغرب المرتبة 71 في الرياضيات، و79 في القراءة، و76 في العلوم من بين 81 دولة. لم يصل سوى 18% من الطلاب المغاربة إلى الحد الأدنى من الكفاءة في الرياضيات، مقابل 69% في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية .(OECD) والأسوأ من ذلك أن النتائج في القراءة والعلوم انخفضت بين 2018 و2022، دليل على أن النظام ليس ضعيفًا فحسب، بل سائر في مزيد من التدهور. كما كشف التقرير العالمي للتعليم 2025 (Global Education Report) وجود المغرب في مرتبة متأخرة ضمن أفضل أنظمة التعليم في العالم، حيث حل في المرتبة 63 من بين 72 دولة شملها التصنيف، بمجموع نقاط بلغ 70.212.
تبدأ المأساة منذ الصغر. بنهاية التعليم الابتدائي، لا يستطيع سوى 13% من التلاميذ حل مسائل بسيطة في القسمة. لا يتقن القراءة بطلاقة سوى واحد من كل خمسة أطفال بالعربية، وواحد من كل ثلاثة بالفرنسية. هذه ليست مجرد أرقام؛ إنها إدانة لنظام تخلى عن أطفاله.
الجامعات، بدلًا من تصحيح هذا الكارثة، أصبحت مؤسسات بلا روح. قليل من الأساتذة ينشرون أبحاثًا ذات معنى، وكليات المغرب تكاد لا تنتج أي ابتكار أو براءة اختراع. حتى أفضل جامعة، جامعة القاضي عياض بمراكش، احتلت المرتبة 1,392 عالميًا في Nature Index، بعدد 58 ورقة بحثية فقط، و 95% من هذه الأبحاث كانت بالشراكة مع مؤسسات أجنبية، ما يعني أن المغرب لا يقود البحث، بل يركب موجة إنجازات الآخرين. جامعات أخرى، الرباط، مكناس، الدار البيضاء، فاس، وجدة، أكادير، ليست أفضل حالًا. بدلًا من أن تكون مراكز للمعرفة، أصبحت مصانع للرداءة، حيث لا يتمكن لا الطلاب من اكتساب المهارات الأساسية اللازمة لمستقبلهم ولا الأساتذة من انتاج المعرفة والابتكار بسبب الانعدام الشبه كامل للموارد والتجهيزات. اغلب الأساتذة كان آخر عهد لهم بالبحث العلمي هو سنوات الدكتوراة، حيث لو بحثت في سيرهم الذاتية لوجدت انهم لم ينشروا ولو بحثا واحدا لسنين.
وفي الوقت نفسه، يفقد المغرب مواهب حقيقية. كل عام، يغادر البلاد مئات متخصص مؤهل، أطباء ومهندسون ومجازون، بحثًا عن بيئة تقدّر البحث والجدارة والابتكار. المغرب يستثمر في تدريبهم، ثم يهديهم لفرنسا وكندا وألمانيا وامريكا والخليج. وما هو أكثر مرارة هو انه بمجرد تواجدهم في الخارج، يحقق المغاربة إنجازات باهرة. يقودون مختبرات، ويطورون تقنيات، ويمارسون الطب المتقدم. المشكلة ليست في ذكاء المغاربة، بل في بيئة المغرب المهملة، البيروقراطية، والفساد.
ومع انني لست ضد استضافة تظاهرات عالمية، ولكن مثل كثير من المواطنين لا أستسيغ ان تُنفق المليارات لإبهار العالم بينما تظل أكثر الأولويات إلحاحًا، التعليم الجيد والصحة اللائقة، في حالة خراب. المستشفيات الحكومية تئن تحت وطئة نقص التجهيزات وقلة الموارد البشرية، والمدارس تفتقد إلى أدنى مقومات المدرسة الحديثة.
هذا الفشل ليس صدفة. إنه نتيجة مباشرة لستة عقود من الوعود الفارغة والسياسات الفاشلة. الحكومات المتعاقبة صدعت رؤوسنا بإصلاحات ورؤى استراتيجية وميثاقات وطنية ومؤتمرات لا تنتهي، لكن الصفوف الدراسية تظل منهارة، والأساتذة غير مدربين، والجامعات عقيمة، والبحث غائب. لقد تحول التعليم في المغرب إلى آلة لإنتاج البطالة، والجهل، وعدم المساواة.
لا يمكن لأي أمة أن تتقدم بمثل هذا التعليم. البنية التحتية بدون تعليم هي مجرد قشرة فارغة. المدرسة هي التي تنتج الطبيب الذي يعالج، المهندس الذي يبني، المعلم الذي يلهم، العالم الذي يبتكر، الموظف العمومي الذي يخدم، والجندي الذي يدافع. بدون تعليم، سيظل المغرب يصدر الطماطم والفواكه بينما يستورد الهواتف الذكية والطائرات. بدون تعليم، سيظل المغرب مستهلكًا، لا منتجًا.
إن انهيار التعليم ليس مجرد إخفاق إداري، بل هو أعظم خيانة لاستقلال المغرب نفسه. التخلي عن المدرسة يعني التخلي عن الأمة، والتخلي عن مستقبلها. ما لم تتبنَّ الدولة إعادة بناء جذري للتعليم، قائمًا على الجدارة، والصرامة، والبحث العلمي الحقيقي، ستظل كل المشاريع الأخرى، من طرق وموانئ ومطارات وملاعب، مجرد واجهات فارغة لا تُغني عن خراب عقول أجيال بكاملها.
لقد حان الوقت لتجعل الدولة جودة التعليم أولى أولوياتها، فلا وطن يمكن أن ينهض بعقل محطم، ولا أمة يمكن أن تزدهر بلا معرفة حقيقية. المستقبل لن يُبنى إلا على عقول متيقظة، فهل سنظل نتركه يضيع؟
-عبد الالاه الرضواني
- أستاذ باحث في علوم الطب الحيوي – معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، جامعة حمد بن خليفة