recent
آخر المواضيع

التخطيط لتعميم التعليم الأولي.. بين إشكاليات تعدد المتدخلين وتباين العرض التربوي والطلب عليه

 

شكلت تربية الطفولة في سنواتها الأولى عموما، والتربية ما قبل المدرسية خصوصا، اِنشغالا بالمغرب منذ عقود، حيث حظي التعليم الأولي بمكانة خاصة خلال الإصلاحات التي عرفتها المنظومة التربوية المغربية، على الأقل منذ ميثاق التربية والتكوين الذي نص على تعميمه. وبعد سلسلة من الإصلاحات التي لم تستطع تحقيق هذا الهدف، تمت المصادقة على القانون الإطار 51-17 سنة 2019 ليصبح التعليم الأولي إلزاميا للدولة والأسرة. وجعلت وزارة التربية الوطنية تعميمه وتجويده في أفق 2027-2028 على رأس مشاريعها. ثم أتت خارطة الطريق 2022-2026 لتضع الخطوط العريضة والتدابير اللازمة سعيا منها لإنجاح هذا الورش.

وقد كانت السياسات التربوية الخاصة بالتعليم الأولي والمتعاقبة لسنوات تتعامل مع التعليم الأولي بمعزل عن باقي مكونات المنظومة التربوية وبعيدا عن آليات التخطيط الإجرائي المعتمد منذ عقود بالأسلاك المدرسية الثلاث (ابتدائي، إعدادي، تأهيلي).

مما جعل العرض التربوي المتعلق بالتعليم الأولي لعقود غير مناسب ولا يحترم متغيرات المناطق والمجالات (قروي/ حضري، داخل المدن /هوامش المدن، مناطق مأهولة /مناطق ذات كثافة سكانية ضعيفة، أسر ميسورة/ أسر ذات دخل محدود/أسر فقيرة..).

كما أنه كان ومازال غير متجانس من حيث الجودة في ظل تعدد أنواع التعليم الأولي سابقا بين العصري (مدارس خصوصية وأقسام عمومية متفرقة) والتقليدي (كتاب ومسيد) والغير مرخص له، وتعدد المتدخلين في تدبيره.

ولكن مع بداية تنزيل خارطة الطريق 2022-2024 في عهد الوزير الحالي، تم الاهتداء أخيرا ولأول مرة إلى استعمال آلية الخرائط المدرسية السنوية والاستشرافية (المتعددة السنوات) بالتعليم الأولي بشكل واضح عبر مراسلة وزارية صدرت يوم 13 يناير 2022 بشأن إعداد الخرائط الجهوية لتعميم العرض التربوي للتعليم الأولي برسم الموسمين 2022/2023 و2023/2024، هذا الأمر واكبته الوزارة بمحاولة إعداد آلية رقمية تعمل عبر شبكة داخلية بشكل تصاعدي من المديرية الإقليمية إلى المديرية المركزية الوصية مرورا بالأكاديمية الجهوية. وذلك من أجل إعداد على الأقل، الخرائط الاستشرافية للتعليم الأولي كما هو الحال بالنسبة للأسلاك الأخرى منذ ما يناهز 20 سنة.

وبعد أن تم تجريب هذه الآلية من طرف مصالح التخطيط أو المكلفين بمشروع التعليم الأولي خلال السنتين الأخيرتين، نتفاجأ مؤخرا بمراسلة وزارية تسند عملية التخطيط لتعميم العرض التربوي الخاص بالتعليم الأولي إلى المؤسسة المغربية للنهوض بالتعليم الأولي بناء على طلب منها كجمعية غير ربحية.. علما أنه منذ إحداث هذه الجمعية في مارس 2008 (أي قبل البرنامج الاستعجالي2009-2012)، يتم تفويض ميزانية مهمة لهذه الجمعية في إطار شراكة مع الوزارة من أجل إحداث وتدبير أقسام التعليم الأولي المحدثة في غالبيتها باستعمال حجرات المدارس الابتدائية إلى حدود 2018.

و بعد انعقاد اليوم الوطني حول التعليم الأولي الذي انعقد بالصخيرات سنة 2018، ومع تكريس إلزامية التمدرس بالتعليم الأولي في القانون الإطار الصادر في 2019، أصبحت هذه الجمعية تدبر وحدات التعليم الأولي خارج المدارس الابتدائية أيضا.

ولكن مقتضيات هذه المراسلة الوزارية التي أسندت عمليات التخطيط والبرمجة والتنفيذ بالتعليم الأولي للجمعية تطرح عدة تساؤلات بشأن كيفية وحدود ومعايير تنزيل وأجرأة هذه العمليات من قبل هذه الجمعية التي كان لها دور تدبيري لحدود الآن، إذ ما هي حدود أدوار كل متدخل وما المعايير المعتمدة لضمان الإنصاف وتكافؤ الفرص.

وفي نفس الوقت كيف يمكن الحفاظ على استدامة العرض التربوي ونجاعته وملائمته لأنواع الطلب على التمدرس بالتعليم الأولي، وهذه العناصر هي أهم ما كان يعوق تعميم وتجويد العرض التربوي لأقسام التعليم الأولي.

بل ويشكل خطرا يحول دون استدامة الأثر المطلوب، بسبب تعدد الوضعيات وتباين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية والمجالية والسكانية من منطقة لأخرى زيادة على تباين أنواع العرض المدرسي الذي يتم توفيره من قبل شركاء آخرين . هذا دون أن ننسى أن الأمر يتعلق بأطفال صغار لا يتعدى عمرهم خمس سنوات ونصف بحكم أن السن الرسمي لولوج السلك الموالي وهو التعليم الابتدائي يبدأ من الخامسة والنصف منذ 2006.

صدرت هذه المراسلة في الوقت الذي كان من المنتظر تقاسم نتائج تجريب الآلية الرقمية الرسمية المخصصة للتخطيط للتعليم الأولي مع المصالح الإقليمية والجهوية المعنية من أجل تطويرها واعتمادها رسميا.

ولكن هذا التوجه الجديد في إسناد التخطيط لتعميم العرض التربوي بالتعليم الأولي لهذه المؤسسة أو بالأحرى جمعية مظهر من مظاهر إعادة أخطاء الماضي بشكل غريب في تدبير الإصلاحات بقطاع التربية الوطنية.

إذ بالرجوع للتاريخ القريب والبعيد فقد سجلت اختلالات عدة في تجارب سابقة تم إسناد البرمجة والتخطيط لأطراف أخرى، وسأذكر أبرزها فقط والتي كان لها طابع وطني (دون الرجوع لحالات شاذة ومتفرقة كان يخضع فيها المدبر الإقليمي أو الجهوي لضغوطات سياسية أو انتخاباتية لتوفير العرض التربوي دون احترام أسس ومتطلبات ومعايير التخطيط التربوي). فقد تمت مثلا:

برمجة البناءات المدرسية خلال البرنامج الاستعجالي من طرف الشركاء الدوليين أو الوطنيين دون الرجوع لمصالح التخطيط: مثلا مؤسسات بنيت في إطار شراكة بموجب قرض سعودي أو مع أطراف أجنبية أخرى وبقيت مغلقة أو فارغة لسنوات في انتظار الساكنة التي لم تلتحق حينها أو العمارات السكنية التي توقف بناءها خصوصا خلال أزمة السيولة المالية في السنة الأخيرة من البرنامج الاستعجالي.. والحالة هذه تكررت بمدينة تامسنا وفي منطقة ابن بطوطة بطنجة ومنطقة تمنصورت بمراكش وغيرها.

برمجة مدارس جماعاتية بداخليات دون الرجوع لمصالح التخطيط: خصوصا عندما كانت موضة وأولوية داخل البرنامج الاستعجالي وتهافت المنتخبون خلال 2010 على عقد الشراكات مع الأكاديميات كورقة انتخابية حينها دون ترك هامش القرار أو الاستشارة على الأقل لمصالح التخطيط لتمحيص برمجتها، إذ كان يتم توقيع الشراكات بالجملة وفي وقت قياسي أمام الكاميرات.

ويتبعها إصرار المنتخبين على بناءها دونما الحاجة أحيانا لها أو رغم الاختلالات المرتبطة بمكان توطينها وعدم إقبال الساكنة عليها لصغر سن الأطفال المتمدرسين بالابتدائي. فبقيت العديد منها مغلقة لسنتين أو أكثر أو لم تستعمل داخلياتها في السنوات الأولى، خصوصا أن الوزارة لم تعين أي شخص لتدبير الداخليات.

وتركت المدير بالابتدائية يتخبط أمام قلة المقبلين عليها ويبحث عن شركاء محليين ليساهموا في تدبيرها وتحمل أجور العاملين بالداخلية أو بالنقل المدرسي. وحاولت حينها مصالح التخطيط إيجاد حلول ميدانية لتشغيلها بما فيه تحويل بعضها لإعداديات بداخلية.

برمجة حجرات التعليم الأولي من طرف الشركاء وخاصة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية دون العودة لمصالح التخطيط: فبقيت الحجرات فارغة أو عدد الأطفال بها قليل جدا مما أدى إلى عدم استدامة هذا العرض. مما شكل وضعيات لهدر للمال العام خصوصا عندما برمجت المبادرة حجرات بقرب مؤسسات تعليمية تعرف وجود أو برمجة مسبقة من طرف المديرية الإقليمية لحجرات التعليم الأولي بها.

وفي ظل هذا الوضع، أصبح الهاجس هو تقاسم عدد الأطفال بين العرضين التربويين (المديرية/المبادرة الوطنية للتنمية البشرية). مما أدى إلى وجود أقسام جد مخففة لا تحترم معايير البرمجة ولا تحترم ترشيد استعمال الموارد المادية والبشرية. كما لا تضمن استدامة العرض التربوي.

ويمكن العودة إلى وضعيتها حاليا بعد تسليمها نهاية الموسم الماضي للأكاديميات بموجب مراسلة وزارية للتأكد من ذلك. ويمكن التساؤل في نفس هذا الإطار لماذا أرسلت وزارة الداخلية لجانها التفتيشية لعدد من الأقاليم بشأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بخصوص مشاريع بناءات التعليم الأولي بالأخص إذا لم يكن هناك اختلالات في برمجتها وفي ترشيد صرف ميزانياتها في هذا الشأن.

وقبل كل هذه التجارب، عايشت مصالح التخطيط مسبقا تجربة إسناد البناءات المدرسية للعمالات وعانت من اختلالات البرمجة وعدم احترام الأولويات لعدم إلمام الساهرين على هذا الملف حينها بالعمالات بالمدخلات المعقدة لعملية برمجة البناءات المدرسية وعدم إلمامهم بعناصر الواقع المحيط المؤثرة بكل برنامج بناء تربويا وسوسيولوجيا واقتصاديا وجغرافيا.

هذه فقط بعض الوضعيات التي عايشها العديد من العاملين بالميدان من داخل مصالح التخطيط على مدى سنوات وتوزعت على امتداد عدة إصلاحات وفي العديد من المناطق.

نتمنى أن لا يجد المخططون أنفسهم مرة أخرى خلال السنوات المقبلة أمام تحدي إيجاد مخرج من مشاكل واختلالات البرمجة وعمليات التوطين المجانبة للصواب لوحدات التعليم الاولي بعدما تقرر ترك مسؤولية اتخاذ القرار لأطراف أخرى.

وتجدر الإشارة إلى أن التقدم في مشروع تعميم التعليم الأولي قد قطع أشواطا مهمة من حيث بناء الحجرات أو على الأقل تمت برمجتها مسبقا على عدة سنوات ولكن يبقى دوما تحدي الاستجابة لتوفير هذا العرض لجميع أطفال 4-5 سنوات بمن فيهم المتواجدين في مناطق لا يزيد عددهم عن أصابع اليد.

وهذه الإشكالية جعلت الوزارة تسند مؤخرا لليونيسف القيام بدراسات وإيجاد حلول قابلة للتطبيق لوضعيات المناطق القروية أو ذات الكثافة السكانية القليلة حتى يتم في آن واحد ترشيد الموارد وتغطية هذه المناطق بحجرات ومربيات التعليم الأولي بشكل مستدام.

وقد تعاقدت اليونيسف حاليا مع بعض خبراء التخطيط المتقاعدين أو الذي ما زالوا يشتغلون بمصالح التخطيط للقيام بدراسات وتجربة حلول على أرض الواقع ببعض الأقاليم. علما أن العديد من أطر الوزارة الذين يشتغلون منذ سنوات على هذا الملف الشائك داخل المديريات الإقليمية لهم من الكفاءة والخبرة والتجربة ما يمكنهم من إيجاد الحلول وتكثيف المبادرات لو استمعت الوزارة لهم وأشركتهم بشكل جدي في تحسين حكامة تدبير هذا المشروع استراتيجيا وإجرائيا.

كل هذا يدفعنا إلى طرح تساؤلين أساسين: ألم يكن الأجدر الاستفادة من أطر التخطيط العاملين بالميدان من ذوي الخبرة في التخطيط لهذا السلك دون المرور بهذا الطريق الملتوي؟ ثم إذا كان هناك إلمام حقيقي لدى هذه الجمعية لدرجة ستمكنها من البرمجة والتخطيط فلم لم تسند لها مهمة إيجاد حلول لهذه الإشكالية التي تدخل في صميم التخطيط التربوي.

خصوصا أن الواقع الذي وقفنا عليه عبر عدة بحوث لطلبتنا بمركز التوجيه والتخطيط التربوي أطلعنا على أن هذه الجمعية الوطنية تجد نفسها في مثل هذه الحالات مجبرة على إغلاق بعض أقسام التعليم الأولي التي فتحتها سابقا لتناقص عدد الأطفال بالعديد من وحداتها سواء بسبب قلة الولادات أو الإقبال على التعليم الخصوصي، مما يشي بسوء البرمجة. بل وقد يتم إغلاق وحدة للتعليم الأولي كانت توجد سابقا لإحداث اخرى فقط لأن الأولى تدبر من طرف جمعية محلية.

كيفما كان الحال فلعله خير أن يتم وضع هذه الجمعية المؤسسة أمام المسؤولية الكاملة لتدبير التعليم الأولي، حتى لا تتداخل المهام وتتقاذف الاتهامات لاحقا أو يسهل التملص من المحاسبة.

إذ أصبحت هذه الجمعية هي المسؤولة عن التشخيص والتخطيط والبرمجة والتنفيذ والتكوين والإشراف وإبرام عقود العمل. علما انها تسمي ذلك في إعلاناتها توظيفا للمربيات والمربين والمشرفات والمشرفين حتى أصبح العاملون تحت مظلتها يظنون أنه سيتم حقا إلحاقهم بالوزارة الوصية وتوظيفهم بها. ولا أستبعد بتاتا أن يتكتل هؤلاء المتعاقدون لاحقا ويخرجوا في مظاهرات مطالبين بذلك بعد تضخم أعدادهم.

خصوصا أن القانون الإطار يلزم الدولة بتوفير عرض تربوي مناسب لتمدرس الطفل بالسلك الأولي بل وينص على دمج هذا السلك بالسلك الابتدائي في 2023. وما تسمية هيئة التدريس بالابتدائي المتخرجين منذ 2016 ب أساتذة التعليم الابتدائي والأولي إلا دليل على ذلك رغم أن الوزارة سكتت عن أمر إدماج السلكين وباتت تحصره في عبارة الإدماج التربوي .

ولم تجرؤ على إلزام اساتذة التعليم الاولي والابتدائي بالتدريس بالتعليم الأولي كما ينص على ذلك القانون الإطار اتقاء لاحتجاجات جديدة، بل ألغت هذه التسمية في المرسوم الجديد بحذف كلمة الأولي .

كيفما كان الحال وبما أن التخطيط للتعليم الأولي تم تفويضه بموجب هذه المراسلة الوزارية إلى هذه الجمعية الوطنية فلم يعد التخطيط لهذا السلك التعليمي الإلزامي من مهام مصالح التخطيط الإقليمية او الجهوية بل أصبحت فقط مصدرا للمعطيات والمعلومات. وحتى ذلك لم يعد من اختصاصها لأن منظومة مسار ومصالح منظومة الإعلام هي المصدر الرسمي للمعطيات المدرسية وهي المعنية بتشخيص الواقع التعليمي بشكل دقيق بكل إقليم.

لذا أعتقد أن هذا القرار سيدفع مصالح التخطيط إلى أن تنأى بنفسها عن المشاركة في عمليات التخطيط للتعليم الاولي. وقد أصبحوا مكلفين فقط بوضع المعطيات الإحصائية المتوفرة لديهم رهن إشارة هذه الجمعية في إطار ما تسمح به اللجان الإقليمية كما تنص عليه حرفيا المراسلة الوزارية. وهكذا سيتحمل كل طرف تبعات قراراته وكل جهة برمجت مشاريع الإحداث أو التوسيع أو التجهيز او التوظيف مسؤولياتها لاحقا.

google-playkhamsatmostaqltradent