ألقى وزير العدل الأسبق، المحامي المصطفى الرميد، يوم 25 دجنبر الجاري بمقر هيئة المحامين بالناظور، الدرس الافتتاحي أمام طلبة ماستر العلوم الجنائية والأمن السيبراني، بالكلية المتعددة الاختصاصات يالمدينة ذاتها.
وهذا نص الدرس كما نشره الرميد على حسابه الفيسبوكي:
القانون الجديد للمسطرة الجنائية، وتحدي الموازنة بين الحفاظ على الحقوق والحريات، وحفظ الأمن العام.
لقد خلق الله الكون على أساس متين من التوازن والتكامل، اذ قال سبحانه وتعالى:
" لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون"
فالقانون الأساسي الذي يحكم الكون، هو الاتساق والتناسق والتعدد والتوافق، فلا اضطراب ولا فوضى ولا ارتباك ولا اعوجاج.
كما ان ارسال الرسل وإنزال الرسالات جاء على قاعدة:
"لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"
إذ المقصود هنا بالكتاب، هو الوحي المؤسس للقانون الناظم للسلوك البشري، وأما الميزان فالمقصود به هو الإلهام المفضي إلى التصرف بمنطق الحكمة التي تسفر عن الإنصاف والعدل بين الناس.
ولقد أدى التطور السياسي للدولة الحديثة أن كان تأسيسها يمر حتما عبر قيام ثلاث سلطات، مستقل بعضها عن بعض، استقلالا مطبوعا بطابع التعاون والتوازن، وهو ما نص عليه دستور المملكة في فصله الأول إذ جاء فيه:
(يقوم النظام الدستوري للمملكة على أسس فصل السلطة وتوازنها وتعاونها).
وباستقراء الهندسة المؤسساتية للدولة الحديثة، يتبين أن الحكومة تخضع لمراقبة البرلمان، كما تخضع المخرجات التشريعية للبرلمان للرقابة الدستورية، وبموازاة ذلك، هناك السلطة القضائية، التي تمارس رقابتها ،وتصدر أحكامها تطبيقا للقانون، بكل استقلالية ،مع اعتبار كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما.
لذلك ،فان الحديث في الموضوع الحماية التشريعية للحقوق والحريات في علاقته بحماية الأمن العام، يتطلب استحضار الثنائية الكونية المتوازنة والتعددية المؤسساتية المتعاونة، للقول بان المقاربة التشريعية لهذا الموضوع لا يمكن أن تتأسس على التنافر والتنابد، وانما على التعاون والتوازن.
ذلك أن الدولة ،مبدئيا، هي الكيان الذي يحفظ الحقوق والحريات، وهي الاطار الذي لا يتصور وجود الحقوق والحريات بدونها، لذلك فان حفظ الحقوق والحريات ،محكوم باستمرار الدولة وباستقرار وسيادة الأمن والأمان في ربوعها، كما انه الأمن والأمان لا يتصوران في دولة تعتدي على الحقوق، وتخنق الحريات، وعلى هذا الاساس، هناك ثمة تأثيرا متبادلا بين حماية الحقوق والحرية، وحفظ الأمن والنظام العام ،إيجابا وسلبا، وجودا وعدما ،مع العلم أن حماية حياة الأشخاص وسلامتهم، وحماية ممتلكاتهم ،وامنهم ،هي اعلى الحقوق واسماها.
لذلك، فان التشريع المجسد للانصاف، والضامن للعدل، والحافظ للاستقرار والأمن، هو التشريع الذي يستطيع الموازنة الدقيقة بين اعتبار الأمن والأمان ،ويحفظ الحقوق والحريات في نفس الآن، فلا افراط ولا تفريط ،ولا شطط ولا تجاوز.
وتاسيسا على ذلك، فان الإعلان العالمي لحقوق للإنسان نص على المبادئ العامة للحقوق والحريات في 28 مادة منه، غير انه نص في المادة 29 على:
(أنه لا يخضع أي فرد في ممارسة حقوقه وحرياته، إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفا منها حصرا، الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها والوفاء العادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع دمقراطي.
كما ان العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ،إذ نص على جملة من الحقوق الأساسية ،كحرية الفكر والوجدان والدين والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات، فقد أناط تطبيقها بشرط (صيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة وغيرها).
إن هذه الثنائية، ينبغي استحضارها في أي تشريع أو بناء مؤسساتي وهو ماجعل دستور المملكة ينص في الفصل 92 ،على تداول مجلس الحكومة تحت رئاسة رئيس الحكومة في القضايا والنصوص التالية:
1- السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري.
2- .......................
3- ...........................
4- ........................
5- القضايا الراهنة المرتبطة بحقوق الإنسان النظام العام ...
وهكذا فان المشرع الدستوري استحضر ثنائية حقوق الإنسان والنظام العام ،فيما يمكن أن يخضع للمناقشةوالتداول ،في المجلس الحكومي، قارنا بينهما، فاسحا المجال لكليهما، لكي يتم مقاربتهما معا ،دون ميل أو حيف ،أو إقصاء أو تبخيس، لان كليهما أساس قيام الدولة واستمرارها وازدهار العمران وتقدمه، وحماية الإنسان في بدنه وماله، كما الحال لكرامته و انسيته .
لذلك، فان التشريع في مجال المسطرة الجنائية، ينبغي أن يكون همه الأول ضمان الحقوق والحريات، التي تتأسس عليها المحاكمة العادلة في دوله آمنة مستقرة ،مع استحضار مبدأ أساسي من صميم المحاكمة العادلة ،وهو عدم الافلات من العقاب ،باعتبار ثنائيه حماية المتهم، وحفظ حقوق الضحية ،الذي هو المنطلق لحفظ الأمن العام.
فهل ضمن التعديل الأخير لقانون المسطرة الجنائية واجب الحفاظ على هذه المعادلة؟ وهل وازن بدقة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، وبين حقوق المتهم وحقوق الضحية؟ وبين حماية الحريات وحفظ النظام العام؟
أستطيع أن أؤكد أن ذلك بارز بشكل واضح في كثير من التعديلات، إلا أنه ضامر إلى درجة الغياب في تعديلات أخرى كما سيأتي بيانه.
أولا-
يلاحظ أن المادة 15تضمنت تعديلا يقضي بجواز قيام النيابة العامة، عند الاقتضاء ،اطلاع الرأي العام على القضية والإجراءات المتخذة فيها، ومستجداتها ومآلها ،دون تقييم الاتهامات الموجهة إلى الأشخاص المشتبه فيهم،والمتهمين، كما يمكنها أن تأذن للشرطة القضائية بنشر بلاغات حول القضايا المسجلة، دون الكشف عن هويات المشتبه فيهم أو المساس بحياتهم، وفي هذه المقتضيات، إذا تم احترامها على الوجه الصحيح ،تمكين المواطنين والمواطنات، من حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة ،طبقا للفصل 27 من الدستور الذي ينص على حق المواطنات والمواطنين في الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة والهيات المكلفة بمهام المرفق العام، كما الحفاظ على قرينة البراءة ،طبقا للفصل 119 الذي ينص على ان كل مشتبه فيه او متهم بارتكاب جريمة، يعتبر بريئا الى ان تثبت ادانته بمقرر قضائي، مكتسب لقوة الشيء المقضي به.
ثانيا-
إن حق التشكي من مستلزمات حماية الضحايا، وممارسة واجب المواطنة الحقة، غير أنه في بعض الأحيان تواجه المشتكي صعوبات تحول بينه وبين الكشف عن هويته، فيضطر إلى توجيه شكاية مجهولة المصدر ،في صيغة وشاية.
ونظرا لما تكتسيه الكثير من الوشايات ،من طابع الافتراء والكذب، فإن المادة 21 مم القانون الجديد، إذ نصت على كون ضباط الشرطة القضائية يتلقون الشكايات والوشايات ،ويجرون الأبحاث التمهيدية ،بشأنها ،طبقا للقانون، فإنها دققت بشأن الوشايات المجهولة المصدر، بأن أوجبت قبل مباشرة الأبحاث بشأنها ،الحصول على إذن النيابة العامة المختصة.
كما أن المادتين 40 و49 من قانون المسطرة الجنائية الجديد الزمتا النيابة العامة (وكيل الملك والوكيل العام للملك) بالقيام بالتحريات الأولية ،للتأكد قبل الإذن بمباشرة الأبحاث بشأنها وهو ما يقيم التوازن المطلوب بين حماية حق التشكي بكافة صوره، وحماية حق المشتكي به من الخضوع للمساءلة والبحث المتسرعين.
ثالثا-
إن حق النيابة العامة في نشر برقيات البحث على الصعيد الوطني ،عن الشخص المبحوث عنه، كان يتم دون قيد زمني، وهو ما كان يضر بحقوق وحريات العديد من الأشخاص، خاصة ممن سرى في حقهم تقادم الجرائم ،والعقوبات المحدد في خمسة عشر سنة، بالنسبة للجنايات، واربع سنوات في الجنح.
وقد جاء التعديل الجديد موازنا بين واجب حماية الإذن العام بنشر برقيات البحث ،وبين حماية الاشخاص من سريان إثر برقيات البحث وأضرارها في حالة تقادم الجرائم أو العقوبات حيث تم النص في المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية الجديد على الآتي:
" تلغى برقية البحث بقوة القانون ،بمجرد إلقاء القبض على الشخص المبحوث عنه ،أو تقادم الجرائم أو العقوبات المنشورة بسببها، وتسهر النيابة العامة، تلقائيا أو بناء على طلب من له مصلحة في ذلك، على تنفيذ هذه المقتضيات بعد التحقق من شروط إلغاء برقية البحث، ويتم إشعار الشرطة القضائية المعنية بالإلغاء".
رابعا-
إن سلطة الملاءمة الممنوحة للنيابة العامة تجعلها صاحبة القرار بالمتابعة من عدمها ،بناء على تقديرها الخاص، لذلك فإن المادة 40 الخاصة بصلاحيات وكيل الملك ،وكذا المادة 49 الخاصة بصلاحيات الوكيل العام للملك ،قررتا إخبار المشتكي أو دفاعه بمآل الإجراءات المتخذة بشأن الشكايات ،داخل أجل أقصاه خمسة عشر يوما من تاريخ اتخاذ القرار، مع منح المعني بالأمر حق التظلم من قرار الحفظ المتخذ من طرف وكيل الملك أو نائبه ،أمام الوكيل العام للملك ،كما الحق في التظلم من قرار الحفظ المتخذ من الوكيل العام للملك أو أحد نوابه أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، وهو اختيار تشريعي موفق بين سلطة النيابة العامة في اتخاذ القرار بشأن الحفظ، والحق في التظلم الذي يؤسس لرقابة مؤسساتية معقولة على أساس سلطة الملاءمة.
وقد اثير نقاش هام حول مدى جواز الطعن الإداري في قرارالنيابة العامة، الا ان الذي اراه ان المسطرة الجنائية، لها كيانها الخاص الذي حدد وسائل الطعن، ودققها، وبالتالي، فليس بالامكان سلوك اي سبيل غير ماحددته المسطرة الجنائية.
خامسا-
لقد منحت المادتان 40-1 و49-1 لوكيل الملك والوكيل العام للملك ،في حالة وقوع جريمة تمس بحق الملكية العقارية الحق في التماس إصدار أمر بعقل العقار المرتبط بالفعل الجرمي في إطار الأوامر المبنية على طلب ،يقدم إلى رئيس المحكمة أو الرئيس الأول حسب الأحوال، مع قابلية هذا الأمر للطعن بالاستئناف في الحالتين، حيث تبت محكمة الاستئناف بشأن قرار رئيس المحكمة الابتدائية، وتبت غرفة المشورة بشأن قرار الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
ولا يخفى أن هذا التشريع فيه حماية لحق الملكية ،وحماية للأمن العام من الجرائم التي تمس الملكية العقارية، وهي أيضا الوجه الأخر لحماية حق الملكية، اذ ان الدستور ينص في الفصل35 على ان القانون يضمن حق الملكية، ويمكن الحد من نطاقها وممارستها بموجب القانون.
سادسا-
لقد منحت المواد 40-1 و49-1 و57 لقاضي التحقيق والنيابة العامة بدرجتيها، وكذا الشرطة القضائية، بإذن النيابة العامة بإجراء بحت مالي موازي في الجرائم التي يشتبه في كونها تذر عائدات مالية، لتحديد الأموال والممتلكات والمتحصلات ومصدرها وتاريخ تملكها، وعلاقتها بالجريمة. ولها أن تأمر بحجز جميع الأموال والممتلكات التي يشتبه في كونها متحصلة من الجريمة حتى وإن كانت بيد شخص أخر مع مراعاة حقوق الغير حسن النية.
غير أن التعديلات المقررة نصت على أنه لا يمكن أن يشمل الحجز الأشياء والممتلكات التي لا علاقة لها بالجريمة، ولاسيما الأجور والمعاشات المكتسبة قانونا والتركات والأموال المكتسبة قبل ارتكاب الجريمة والتي لم يثبت أن لها علاقة بها.
وأضافت المواد 40-1 و49-1 و87 ،أنه يتعين على وكيل الملك والوكيل العام للملك وقاضي التحقيق ،حسب الأحوال، اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير اللازمة ،لمنع تأثير الإجراءات المتعلقة بحجز الأموال أو تجميد الحسابات، أو عقل الممتلكات على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها، وكذا على الوضع القانوني للأشخاص، سواء كانوا أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين.
وقد أضافت المواد المذكورة أنه: " يمكن لوكيل الملك والوكيل العام للملك حسب الأحوال ،أن يأمر بمقرر معلل برفع الحجز أو التجميد أو العقل عن الأشياء أو الممتلكات التي يثبت لا علاقة لها بالجريمة، أو أنها تتعلق بحقوق الغير حسن النية، مع قابلية قرار الرفض بالطعن أمام رئيس المحكمة ،أو الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف حسب الأحوال.
إن الملاحظ هنا ،أن مقرر الحجز أو التجميد أو العقل الممنوح للنيابة العامة، ليس واجب التعليل ،وذلك على خلاف مقرر رفع الحجز، أو التجميد، أو العقل، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن ما يفرضه القانون على النيابة العامة من اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة، لمنع تأثير الإجراءات المتعلقة بحجز الأموال ،او تجميد الحسابات، أو عقل الممتلكات على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها ،وكذا على الوضع القانوني للأشخاص أمر صعب وعسير، وينيط بالنيابة العامة مهمة لا طاقة لها بها، خاصة مع ضغط كثرة المساطر، فضلا عن ارتباط الموضوع بالمعطيات الاقتصادية والمالية للأشخاص والشركات والمؤسسات ،وهو ما لا يتلاءم مع التكوين القانوني للقضاة ،خصوصا وأن المسطرة ليست تواجهية.
لذلك، فقد كان الأجدر بالمشرع أن يمنح القرار للقضاء في إطار مسطرة استعجالية تواجهية، لاتخاذ قرار خطير من هذا النوع.
أضف إلى ذلك ان المادة 87 التي تمنح قاضي التحقيق حق القيام بما ذكر، لا تسمح للمعني بهذا الإجراء بحق الطعن فيه أمام الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف ،كما هو الحال بالنسية لباقي القرارات.
سابعا:
لقد تضمنت المادتان 41 و41-،1 مقتضيات تهم مسطرة الصلح، والملاحظ أنها مسطرة موازنة بين الحق العام والحق الخاص، إذ أنها نصت على شمولها الجنح المعاقب عليها بسنتين أو أقل وبغرامة لا تتجاوز حدها الأقصى مائة ألف درهم ،أو إحدى هاتين العقوبتين فقط، وذلك إضافة إلى جرائم أخرى.
ومن ذلك:
-حالة العنف العمدي ،المنصوص عليها في المادة 401 من مجموعة القانون الجنائي، والتي تهم العجز الذي تتجاوز مدته 20 يوما.
-حالة العنف، المنصوص عليها في المادة من404 من القانون الجنائي، الموجه ضد بعض الفئات الهشة في حدود البند الأول.
-حالة التهديد المنصوص عليها في المادتين 425 و426 من القانون الجنائي .
-حالة دخول أو محاولة دخول مسكن الغير، باستعمال التدليس أو التهديد أو العنف، المنصوص عليها في المادة 441 من القانون الجنائي.
-حالة إفشاء أسرار مصنع أو محاولة ذلك، المنصوص هليها في المادة 447 من القانونالجنائي.
-حالة الاختلاس العمدي لمال مملوك للغير(السرقة)،المنصوص عليها في المادة 505 من ق ج، وكذا سرقة الحيوانات أو الأشياء من الحقول المنصوص عليها في المادة 517 من القانون الجنائي.
-حالة نزع حدود فاصلة بين عقارين المنصوص عليها في المادة 520 من القانون الجنائي.
-حالة التصرف بسوء نية في التركة ،المنصوص عليها في المادة 523 من القانون الجنائي.
-حالة التبديد العمدي لمحجوز، المنصوص عليها في المادة 524 من القانون الجنائي.
-وكذلك حالات اخرى منصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي، و يتعلق الأمر بالمواد 525، 526، 538، 540، 542، 547 و549 البند الأخير منها وهي كلها جنح تتعلق بجرائم الأموال الخاصة.
وذلك إضافة إلى الحالة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 553 من ق ج، والمادة 571 من ق ج، فضلا عن المادة 356 من مدونة التجارة المتعلقة بإصدار شيك بدون مؤونة.
إن أهمية هذه المقتضيات الجديدة ،أنها وسعت من وعاء الصلح، وبسطت مسطرته، مما سيعزز من دعائم العدالة التصالحية، خاصة وأن هذه المسطرة توقف الدعوى العمومية، وتضع حدا لسريانها ،ولآثارها، في جميع المراحل، حتى ولو تعلق الامر بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به . (المادة 597.1).
ثامنا:
إن سلطة النيابة العامة في الإيداع بالسجن، أصبحت منوطة بتوفر الشروط المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية الجديد، غير أن المشرع واجه صعوبة كبيرة في تقدير الحالات، فهو من جهة مطوق بواجب تقييد هذه السلطة ومنعها من الشطط، ومن جهة أخرى استحضرآلاثار الصعبة على الأمن العام، إن هو حصر الحالات بشكل يؤدي إلى انفراط عقد الأمن وسلامة الأفراد واستقرار المجتمع، وهي وان كانت بمثابة قيود على سلطة النيابة العامة، الا انها في صياغتها الفضفاضة قد لاتؤدي ماهو منتظر منها على هذا الصعيد.
كما أنه من الناحية المسطرية ،تم إحداث آلية الطعن في الأمر بالإيداع في السجن أمام هيئة الحكم التي ستبت في القضية وفي حالة تعذر ذلك أمام هيئة الحكم التي تتألف من ثلاث قضاة تشكل لهذه الغاية، وهي أيضا مسطرة قد تكون مفيدة اذا مارست الهياة المعنية مهمتها بشكل دقيق وحازم، اما اذا كان الامر على خلاف ذلك فقد تصبح مجرد مسطرة زائدة.
يضاف الى ذلك، ان المادة 47.2 ،تضمنت مقتضى يقلل من اهمية هذه المسطرة،وذلك بنصها على انه في حالةطعن النيابة العامة في قرار رفع الاعتقال، الذي تقرره الهيئة المعينة،فان المتهم المعتقل يبقى رهن الاعتقال، الى غاية بث محكمة الاستئناف، وهو ماكان ينبغي تفادي تشريعه حماية لحرية الافراد من جهة، ومن جهة اخرى تكريس المصداقية اللازمة لهذه المسطرة الحمائية.
ومعلوم ان المشرع يواجه إكراهات جمة لضمان الحقوق والحريات ،مع حفظ الأمن العام في نفس الان، مما يجعله في بعض الاحيان،يضع تشريعات تقطع نصف المسافة لكنها، لاتصل الى حدود الضمان التام لهذه الاخيرة .
وما يقال في موضوع الأحوال المقررة للإيداع بالسجن، المنصوص عليها في المادتين 47-1 و73 ،1 يقال أيضا بالنسبة لأسباب الوضع رهن الحراسة النظرية المنصوص عليها في المادة 66-1 من قانون المسطرة الجنائية الجديد.
تاسعا-ّإن أصعب المراحل التي يمر منها المشتبه فيه والمتهم، هي مرحلة البحث أمام الشرطة القضائية، لما تمثله من تأثير على حريته، وأحيانا على كرامته ،فضلا عن صحته الجسدية والنفسية، ومن نتائج وآثار على مصير قضيته.
وأن مما يزيد في حساسية هذه المرحلة وخطورتها مقتضيات المادة 290 من ق م ج التي تنص على أنه:
"يعتد بالمحاضر التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات، إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات"
وبالرغم من أن المادة 291 من ق م ج تنص على أنه:
" يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر المشار إليها في المادة 290 أعلاه مجرد تصريحات تخضع لتقدير المحكمة."
فإنه على صعيد الجنايات، تميل الغرف الجنائية في كثير من الأحيان، إلى اعتماد محاضر الشرطة القضائية ،بدعوى اتساق الاعترافات الواردة فيها ،واقتناعها بما جاء فيها.
لذلك ،فإن مواد مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية المنجزة سنة 2015 ،كانت تنص في المادة 67-1 على الآتي:
"يقوم ضابط الشرطة القضائية بتسجيل سمعي بصري لاستجوابات للأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية المشتبه في ارتكابهم جنايات أو جنحا."
وقد نصت المادة 63-3 المسودة أيضا على أنه: "إذا تعلق الأمر بالاستماع إلى المشتبه فيه بارتكاب جناية أو جنحة، ولم يكن موضوعا تحت الحراسة النظرية، فإن الاستماع إليه يمكن أن يتم بحضور محاميه المختار."
وهكذا، فإن المسودة المتوافق عليها حينئد،والتي عكست روح الدستور ،وتوصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، استحضرت حساسية مرحلة البحث وخطورتها، فاعتمدت آلية التسجيل السمعي البصري للاستجواب للأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية ،سواء تعلق الأمر بالبحث بشأن الجنايات أو الجنح وفيما سوى ذلك، اعتمدت حضور المحامي مع الشخص المعني، لضمان حقوقه.
وبعد مرور عشر سنوات، كان يفترض فيها إنجاز تقدم ملموس يتلاءم مع التطور الحقوقي الوطني خاصة على صعيد الحكامةة الامنية، وكذا التطورات الدولية على خذا الصعيد ،اذا بنا نفاجأ بتراجع خطير وقد تجسد هذا التراجع فيما يلي:
1)-نصت المادة 66-3 من ق م ج على الاقتصار في التسجيل السمعي البصري على الجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات فأكثر ،بالنسبة للأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية.
2)الاقتصار في ذلك على مرحلة قراءة التصريحات المضمنة بالمحضر ،ولحظة التوقيع ،أو الإبصام او رفض ذلك.
3)النص على نص تنظيمي لتحديد كيفيات إجراء التسجيل السمعي البصري.
4)النص في المادة 755 من ق م ج على أن هذه المقتضيات لا تدخل حيز التنفيذ ،إلا بعد انصرام خمس سنوات بعد صدور النص التنظيمي المشار إليه أعلاه.
إن هذه المقتضيات التشريعية ،لا يمكن إلا وصفها بالعبثية والتلاعب بالعقول، والتحايل التشريعي ،وذلك لما يلي:
إن الدستور ينص في مادته 120 ،على أن لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، فهل يصح القول بالمحاكمة العادلة مع وجود فراغ مهول في الضمانات اللازمة المتعارف عليها عالميا ،حبن ابحث أمام الشرطة القضائية، والتي لا تخرج أساسا عن حضور المحامي ،كما قررت ذلك الآليات الأممية التابعة لمجلس حقوق الإنسان او باعتماد التسجيل السمعي البصري عند الاقتضاء وهو اضعف الايمان.
إن التسجيل السمعي البصري ،المقرر في المادة 66 من ق م ج الجديد ،يهم فقط الجنح المعاقب عليها ب 5 سنوات فأكثر، وهي قليلة، والجنايات، مع أن الجنح، وباعتبار المادة 290 يحتاج المتابعون بها أكثر من غيرهم للحماية.
إن تعليق تطبيق المادة 66 من ق م ج الجديد على صدور نص تنظيمي، وتعليق تطبيقه بدوره على مرور خمس سنوات من تاريخ صدوره لا يوجد له نظير في التشريع الوطني، إنه بدعة مستحدثة، وتهرب من استحقاق حقوقي لا مبرر له مطلقا سواء من حيث الواقع أو المنطق، أو متطلبات المحاكمة العادلة.
إن المملكة المغربية صادقت على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ونشرت ذلك في الجريدة الرسمية بتاريخ 21 ماي 1980، وبالتالي فإن هذه الاتفاقية أصبحت واجبة النفاذ بملاءمة التشريع الوطني مع مقتضياتها طبقا للفصل 19 من الدستور، وقد صدر عن اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية التابعة للأمم المتحدة، وكذا الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي ولجنة مناهضة التعذيب، وكلها آلية أممية تفسيرات وآراء وتوصيات تعتبر أن الشخص المودع رهن الحراسة النظرية الذي يدعي التعذيب أو الاعتقال التعسفي أو غيرهما من ضروب المعاملة القاسية، مصدق في ادعائه الى أن تثبت الدولة المعنية العكس، وذلك في حالة عدم وجود محام يؤازره خلال وضعه رهن الحراسة النظرية.
وأن من شأن استمرار الوضع التشريعي الحالي أن يجعل المملكة المغربية محل أراء وتوصيات أممية تنتقص من مكتسباتها الحقوقية، وسمعتها الدولية.
إنه إذا كان في حضور المحامي مع الشخص المودع تحت الحراسة النظرية حماية له مما يمكن أن يتم الحاقه به من ضرر يصيب سلامته الجسدية أو النفسية، أو صدقية تصريحاته، فإن هذا الحضور مفيد أيضا لسمعة المؤسسة الأمنية ،التي تتضرر من الادعاءات الكاذبة للكثير من الأشخاص الذين يتم التعامل معهم بمهنية، وفي احترام تام للقانون، إلا أنهم يقومون باصطناع وقائع غير صحيحة مما يسيء الى سلامة المسطرة المنجزة وإلى رجال ونساء الشرطة القضائية الذين أنجزوها طبقا للقانون. وكل ذلك يكون عادة من أجل الإفلات من العقاب.
لذلك يمثل حضور المحامي ضمانة للأشخاص ،وحماية لسمعة المؤسسة الأمنية، وتبعا لذلك سمعة الدولة وصورتها الحقوقية.
وبناء عليه، يمكن القول بأنه على هذا الصعيد، فقد تم تغليب المتطلبات الأمنية على حساب الضمانات الحقوقية، بشكل لا يستجيب للتطور الحقوقي المطلوب.
إننا سنكون سنة 2030 على موعد مع تطور هام على عدة أصعدة سواء فيما يتعلق بالبنى التحتية أو المعمارية أو التنظيمية، وأن من واجبنا كمغاربة أن نعتز بذلك غاية الاعتزاز، لكن هذا التطور الإيجابي المنتظر، لن يوازيه تطور على صعيد ما ذكرنا وما وقفنا عليه بالتفصيل، وهو ما يعني أن المغرب يسير على هذا المستوى بسرعتين، سرعة البراق على على مستوى البنى التحتية ،سرعة الزمن الغابر، فيما يخص وضع الشخص المودع رهن الحراسة النظرية، وبالرغم من الجهود المبذولة على صعيد الحكامة الأمنية، حيث تم القطع مع التعذيب الممنهج والاساليب العنيفة جدا في التدخلات الامنية،دون إن يعني ذلك أن أصنافا أخرى من الممارسات المسيئة إلى الأشخاص ،وإلى المساطر القضائية قد تم القضاء عليها بشكل مطلق.
لذلك، فإن السلطات الموكولة لضباط الشرطة القضائية، وباعتبار الوضع الهش الذي يوجد فيه الشخص المودع رهن الحراسة النظرية، يستلزم إضفاء حماية فعلية لهذا الأخير، وهو ما لا يتحقق إلا بحضور المحامي معه، خلال مرحلة استجوابه وتوقيعه على المحضر الخاص به، أو على الأقل إنجاز تسجيل سمعي بصري لكل ذلك، وذلك أضعف الأيمان.
هذا، مع العلم أنه تم اعتماد مقتضى جديدا يسمح للمحامي بالاتصال بالشخص ابتداء من الساعة الأولى لوضعه تحت الحراسة النظرية، باستثناء الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من ق م ج، وهي جراىم خطيرة وعديدة، وضمنها، جرائم المس بأمن الدولة، والإرهاب، وجميع الجرائم التي تقترن بالعصابة الإجرامية ،وكذلك جرائم القتل أو التسميم أو المخدرات أو المؤثرات العقلية ،و جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والغدر واختلاس أو تبديد المال العام ،و جرائم التزييف والتزوير وغيرها من الجرائم الخطيرة.
وباستقراء لائحة هذه الجرائم، يتبين أن ما أعطي بيد، تم سلبه بأخرى.
وبالتالي، فإن أخطر الجرائم ،وأصعبها ،سيكون للأشخاص المعنيين بها ،المودعون تحت الحراسة النظرية، ليس بإمكانهم قانونا ،الاتصال بمحاميهم ،منذ الساعة الأولى، وعليهم الانتظار نصف المدة الأصلية للحراسة النظرية(المادة 66-2)، والتي هي نصف 96ساعة بالنسبة للجرائم الارهابية، وجراىم امن الدولة، و نصف 48 ساعة بالنسبة لياقي الجرائم.
ومعلوم أن الاتصال يكون في حدود نصف ساعة تحت مراقب ضابط الشرطة القضائية، في ظروف تكفل سرية المقابلة بين المحامي ومؤازره(المادة 66-2 من ق م ج) حيث يكون المحامي ومؤازره تحت بصر ضابط الشرطة دون سمعه.
هذا، مع العلم أنه تقرر حضور المحامي لاستجواب الشرطة بعد إذن النيابة العامة المختصة مع المشتبه فيه من ذوي العاهات المشار اليهم في المادة316من قانون المسطرة الجنائية، وهم الابكم، والاعمى، او كل مصاب بعاهة اخرى من شانها الاخلال بحقه في الدفاع. اضافة الى المشتبه فيهم الأحداث، وهو مقتضى إيجابي بالنسبة لهاتين الفئتين.
سادسا:
أن من جملة المستجدات التشريعية الإيجابية، بالمقارنة مع ماكان ينص عليه القانون سابقا، أن أصبح لحضور المحامي أمام النيابة العامة سواء في المرحلة الابتدائية أو الاستئنافية دورا إيجابيا، متجاوزا الحضور الشكلي، حيث أصبح بإمكانه إضافة إلى الإدلاء بوثائق أو إثباتات كتابية، الحق في طرح الأسئلة وإبداء الملاحظات، هو ما من شأنه أن يعزز حقوق الدفاع في هذه المرحلة الهامة من مرحلة المسطرة الزجرية.
سابعا:
لقد أصبح مؤكدا أن المملكة المغربية قطعت مع التعذيب الممنهج، لذلك فإنها حرصا على تمتيع المتهمين بالضمانات اللازمة لوقايتهم من التعذيب ،أوجبت المقتضيات التشريعية الجديدة على وكيل الملك، أو الوكيل العام للملك ،إذا طلب من أحدهما إجراء فحص طبي من طرف المشتبه فيه أو دفاعه أو عاين بنفسه آثار تبرر ذلك، أن يخضع المشتبه فيه للفحص المطلوب يجريه طبيب مؤهل لممارسة الطب الشرعي، أو طبيب آخر إذا تعذر ذلك.
ومعلوم ان الطب الشرعي اصبح منظما بمقتضى قانون خاص، تبعا لتوصيات اصلاح منظونة العدالة. كما ان الطبيب الشرعي يجب عليه اعمال مقتضيات بروتوكول إسطنبول، وهو المرجع المعترف به دوليا في موضوع اثبات الجراىم ،بواسطة الاطباء الشرعيين، و متى صدرت شهادة طبية مخالفة لهذا البروتوكول، او من غير طبيب شرعي،فانها تفقد قيمتها الثبوتية ،من منظور القانون الدولي لحقوق الانسان.
غير ان عدد الاطباء الشرعيين محدود جدا، وهو مايفرض على الدولة ايلاء العناية اللازمة لها النوع من الاطباء، من جميع الوجوه، بما في ذلك التحفيز المادي لضمان توفر العدد الكافي منهم، مع ضمان انتشار وجودهم في ربوع البلاد، نظرا لحاجة العدالة الى خدماتهم الضرورية فيما يتعلق باثبات الجراىم.
وجذير بالذكر،انه تقرر عدم الاعتداد باعتراف المتهم المدون بمحضر الشرطة القضائية، إذا كان قد طلبه المتهم الذي يحمل آثار ظاهرة للعنف أو دفاعه، طما هو مقرر في المادة 73 من ق م ج بالنسبة للوكيل العام للملك، والمادة 74-1 من ق م ج بالنسبة لوكيل الملك. ويندرج هذا المقتضى في اطار ملاءمة التشريع الوطني مع اتفاقية مناهضة التعذيب..
ثامنا:
لقد أثبت الواقع أن بعض المقتضيات القانونية المقررة في القانون الجنائي، لا تتلاءم مع الجرائم المنصوص عليها فيه والعقوبات المقررة لها مع خطورتها وآثارها.
وهكذا، فعلى سبيل المثال فقد تقوم جميع شروط الجريمة الموصوفة بالجناية في السرقة ،كالتعدد، واستعمال الناقلة وغيرها، لكن أثرها قد يقتصر على دراهم معدودة.
لذلك، قررت المادة 49 من ق م ج أنه خلافا للقواعد المنظمة للاختصاص النوعي، يمكن للوكيل العام للملك كلما تعلق الأمر بجناية، وكان الضرر الناجم عنها محدودا، أو كانت قيمة الحق المعتدى عليه بسيطا، أن يحيل القضية إلى وكيل الملك المختص لإجراء المتابعة بشأنها، بوصفها جنحة وتتقيد الجهة التي تحال عليها القضية لمناقشتها وفق الوصف المحدد في المتابعة بعد التحقق من الشرطين المتعلقين بحجم الضرر الناجم وقيمة الحق المعتدى عليه، وهذا هو ما يسمى بالتجنيح القضائي، وهو اختيار وجيه، ويكرس مبدأ عدالة الملاءمة.
تاسعا:
أن من جملة ما كان مقررا في قانون المسطرة الجنائية القديم ،أن الوكيل العام للملك ،لا يملك سلطة الإحالة على غرفة الجنايات للمتهمين وهم في حالة سراح.
لذلك، اقتضت السياسية الجنائية ،النص في المادة 73 من ق م ج على ما يلي:
" غير أنه يمكن للوكيل العام للملك عند الاقتضاء إحالة المتهم إلى المحكمة في حالة سراح، ويمكنه أن يأمر بإخضاعه لواحد أو أكثر من تدابير المرتقبة القضائية المنصوص عليها في المادة 161 من هذا القانون."
وهو اختبار تشريعي موفق يكرس حريات الأشخاص ويعزز حقوقهم.
عاشرا:
لقد أحدثت المقتضيات المسطرية الجديدة تقنية خاصة للبحث يطلق عليها الاختراق، ويمكن بمقتضاها للنيابة العامة ان تاذن لضابط الشرطة القضائية بتتبع ومراقبة الشخص المشتبه فيه بأنه فاعل أو مساهم أو مشارك أو مستفيد من الأفعال الإجرامية، موضوع البحث، وتمكنه لهذه الغاية استعمال هوية مزورة، وتمكنه عند الضرورة ارتكاب بعض الأفعال التي تعتبر جرائم.
غير أن هذا الإجراء المعمول به في جل الدول تبعا لخطورة بعض الجرائم، وتطور ممارستها، إذ يستوجب إذنا مكتوبا ومعللا،ويتضمن تحديد الجريمة، وكذا مجموعة من المعطيات، وخلال مدة محددة، تقرر أنه يمكن وضع الإذن المكتوب رهن إشارة هيئة المحكمة، يطلب فيها، لتطلع عليه وحدها عند الاقتضاء (المادة 3-3-82).
إن الملاحظ هنا ،أن النص لا يشير إلى حق المتهم في طلب وضع الإذن المذكور رهن إشارة هيئة المحكمة، كما أن النص منح المحكمة وحدها حق الاطلاع على الإذن عند الاقتضاء، لا يتلاءم مع متطلبات حقوق الدفاع.
وقد كان بإمكان المشرع النص، مثلا على إمكانية إطلاع الدفاع على نسخة من وثيقة الإذن ،بعد تجريدها من المعطيات الشخصية ،المتعلقة بالضابط المعني، وهكذا، تتم المواءمة من واجب الحفاظ على سرية هوية الضابط المعني من جهة، وحماية حقوق الدفاع من جهة ثانية.
أحد عشر:
تقتضي بعض حالات البحث، القيام بإجراء التحقق من هوية أشخاص يشتبه في ارتكابهم او محاولة ارتكابهم لجرائم أو يشكلون تهديدا للأشخاص، أو الممتلكات او الأمن العام، وإذا رفض أحد الأشخاص الإدلاء بهويته ،أو يتعذر التعرف عليها، فإن لضابط الشرطة القضائية اقتياده إلى مقر الشرطة من أجل التحقق من هويته.
وقد نصت المادة 9-3-382 من ق م ج الجديد على الضمانات اللازمة لحماية حقوقه، ومن ذلك:
-الاتصال بعائلة المعني بالأمر أو محاميه أو مشغله أو معارفه.
-إشعار وكيل الملك بهذا التدبير.
-لا يجوز أن تتجاوز مدة الإيقاف قصد التحقق من الهوية أربع ساعات في جميع الأحوال، قابلة للتمديد أربع ساعات أخرى بإذن من وكيل الملك.
وكلها شروط وإجراءات، من شأنها أن تعزز وسائل التحري والبحث في الجرائم، في إطار من الحماية اللازمة للحقوق والحريات.
اثنا عشر:
كما هو معلوم ،فإن المادة 108 من ق م ج كما هي مقررة في القانون القديم، اشترطت لإمكان قيام الوكيل العام للملك إصدار أمر بالتقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة، بوسائل الاتصال عن بعد، أن يلتمس كتابة من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ،إصدار أو التقاط ذلك، وبتسجيلها وأخد نسخ منها أو حجزها إذا كانت الجريمة موضوع البحث تتعلق بالجرائم المنصوص عليها في نفس المادة، والتي تقع على رأسها جرائم الإرهاب والمس بأمن الدولة وغيرها...
وفي حالة الاستعجال القصوى ،يمكن بصفة استثنائية ،للوكيل العام للملك ،الأمر بما ذكر، غير أنه يجب عليه أن يشعر الرئيس الأول بالأمر الصادر عنه، ولهذا الأخير إصدار مقرر بتأييد أو تعديل أو إلغاء قرار الوكيل العام للملك، غير أن القانون الجديد وإذ أبقى على المادة 108 كما هي مقررة، فإنه أضاف المادة 116-1 التي شرعت التقاط وتثبيت وبث وتسجيل العبارات المتفوه بها من قبل شخص أو عدة أشخاص في أماكن أو وسائل نقل خصوصية أو عمومية أو بالتقاط صور شخص أو عدة أشخاص في مكان خاص أو عام، وأخذ نسخ منها، أو حجزها.
كما نصت المادة 116-3 من ق م ج الجديد على انه لوضع الوسائل التقنية اللازمة لتنفيذ المقرر المتخذ طبقا للمادة 116-1، يمكن الإذن بالدخول إلى وسيلة النقل ،أو المكان الخاص، ما عدا الأماكن المعدة للسكن (المادة 116-4)، ولو خارج الساعات المحددة في المادة 62، بدون علة أو رضى مالك أو حائز وسيلة النقل أو المكان.
غير أنه وعلى خلاف المادة 108 فإن الضابط الذي أباح له القانون الجديد القيام بما ذكر، يجوز له القيام بذلك بناء على إذن من الوكيل العام للملك ،أو قاضي التحقيق دونما صدور أي مقرر عن الرئيس الأول.
الملاحظ أن هذه المقتضيات الجديدة تنتقص من الضمانات الدستورية المنصوص عليها في الفصل ،24 التي تؤكد على أنه لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية كيفما كان شكلها، ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلا أو بعضا أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي ووفق الشروط والكيفيات التي نص عليها القانون.
وحيث إنه لا يمكن وصف إذن النيابة العامة للقيام بما هو منصوص عليه في المادتين 116-1 و116-3، بأنه أمر قضائي، فإن هذا الإجراء ويكون قد جاء خارقا لحقوق أساسية من حقوق المواطنين، ومتسما بخرق الدستور.
ثالث عشر:
إذا كانت المادة 139 من القانون القديم تنص على أنه: (يجب أن يوضع الملف رهن إشارة محامي المتهم ،وقبل كل استنطاق بيوم واحد على الأقل)، ومثل ذلك بالنسبة لمحامي الطرف المدني.
فقد فهم البعض من ذلك عدم وجوب تمكين الدفاع من الاطلاع إلا بيوم واحد قبل الجلسة، وجعلوا منه الأقل والأكثر، كما منعوا أخذ صورة من الملف...
إلا أن المادة 139 من القانون الجديد، نصت على أنه: (يمكن لكل محامي المتهم ومحامي الطرف المدني الحصول على نفقتهما على نسخة من محضر الشرطة القضائية وباقي وثائق الملف).
ويعتبر هذا التعديل أحد أوجه ترجيح حقوق الدفاع على اعتبارات أخرى، كانت تصادر حق الدفاع نصا وممارسة.
وإذا كان النص الجديد قد أبقى على حق قاضي التحقيق إذا اقتضت مصلحة التحقيق ذلك، وتعلق الأمر بجرائم أمن الدولة والإرهاب أن يأمر بعدم تسليم نسخة من المحضر والوثائق كليا أو جزئيا، فإن ذلك لا يتجاوز خمسة عشر يوما ،ابتداء من تاريخ الاستنطاق الابتدائي، وهو اختيار تشريعي موفق.
رابع عشر:
لطالما كانت مسطرة تسليم الاشخاص ،الى البلدان التي تطلبهم لكونخم موضوع بحث جنائي، اومتابعة جارية ،من قبل قضاء الدولة الطالبة، او محكوم عليهم بعقوبة صادرة عن احدى محاكمها،مسطرة مفضية الى تعسفات واقعية مصدرها القانون، ذلك ان اعتقال احدهم، في هذا السياق، قد يدفع ذويه الى رفع شكاية الى الاليات المعتمدة من قبل الامم المتحدة، وخاصة لجنة مناهضة التعذيب، وقد تصدر هذه الاخيرة توصية للمغرب بعدم التسليم خوفا على الشخص المعني من التعذيب الذي قد يطاله من قبل الدولة الطالبة، فيجد المغرب نفسه امام حالة يبقى معها الشخص المطلوب معتقلا لسنوات، فمن جهة يمتنع المغرب عن التسليم ،وفاء بالتزاماته الدولية، ومن جهة اخرى لايسمح القانون بعد قرار الغرفة الجنائية بمحكمة النقض بالتسليم باطلاق سراحه .
وهكذا جاءت المادة734من القانون الجديد، لتنص على مايلي :( غير انه يمكن البث في طلب الافراج المؤقت ولو بعد ابداء الغرفة اي ( الغرفةالجناىية بمحكمة النقض ) رايها في طب التسليم، اذا قدم من قبل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بناء على طلب يوجهه له وزير العدل.
وبمقتضى هذا التعديل الجديد ،سيصبح بامكان الغرفة المذكورة حتى ولو قررت التسليم ان تقرر الافراج عن المعني بالامر، بدل استمرار اعتقاله لمدة غير يسيرة، كما كان يجري به العمل في اطار القانون القديم، وذلك اذا كان هناك مايمنع من التسليم، خاصة اذا صدرت توصية من لجنة مناهضة التعذيب.
ان هذا التعديل يمثل تحولا نوعيا في التعامل مع قضايا التسليم، وخصوصا في العلاقة مع لجنة مناهضة التعذيب تبعا للاتفاقية الدولية ذات العلاقة.
وختاما:
أؤكد على أهمية التعديلات والتغييرات الجديدة على قانون المسطرة الجنائية، وفي مجال توسيع حقوق الدفاع، وضمانات المحاكمة العادلة، غير أن هذه الضمانات لم تكتمل على الوجه المطلوب، ومن منطلق مخرجات دستور 2011، وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ومخرجات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، وكذا توصيات الآليات الأممية لحقوق الإنسان.
لذلك ،يمكن القول، بأن ورش إصلاح المنظومة الجنائية ،ما زال مفتوحا، ويتعين التحلي بالشجاعة التشريعية اللازمة للدفع باستحقاقات الحقوق والحريات المقررة لتجد مكانها الواجب ،وتحتل المساحة التي تستحقها في المنظومة التشريعية الوطنية، التي لا يمكن أن تكتمل إلا بإصدار القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية ،المنصوص عليه في الفصل 133 من الدستور ،وكذا، اصدار قانون جنائي جديد، يتلاءم مع دستور 2011 ،وكافة متطلبات تحديث التشريع الوطني، وتجاوز النتائج السلبية للمباذرة الحكومية بسحب مشروع القانون الجناىي السابق احالته على مجلس النواب سنة 2016، والذي تضمن مقتضيات جد هامة على صعيد المواءمة مع الدستور، والاتفاقات الدولية، ومقتضيات تحديث العدالة الجنائية.
وختاما، اللهم انا نسالك ان تعلمنا ماجهلنا، وان تنفعنا بما علمتنا، ( ربنا لاتؤاخدنا ان نسينا او اخطانا، ربنا ولاتحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولاتحملنا مالاطاقة لنا به). صدق الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله.