recent
آخر المواضيع

اللامرئي في مهنة التعليم... الاختناق الزمني..

 

L’étouffement temporel
يدخل المدرس المؤسسة صباحا قبل الجرس بعشر دقائق، يحمل حقيبته وأوراق التصحيح غير المكتملة من الليل، وقبل أن يصل قاعة الأساتذة يستوقفه ثلاثة تلاميذ بأسئلة مستعجلة، ثم يستدعيه المساعد التربوي لتوقيع وثيقة عاجلة، ثم يوجه التلاميذ للإسراع والالتحاق بقسمهم وو… هكذا يتحول اليوم كله إلى سلسلة متواصلة من الجري الهادئ... من هنا يبدأ “الاختناق الزمني”: ليس لأن المدرس لا يملك الوقت، بل لأن الوقت لا يملكه هو...
لا يعاني المدرس فقط من كثرة المهام، بل من اختفاء المسافة النفسية بين الواجب والراحة، بين الخاص والمهني، بين الدرس والزمن. كل دقيقة محملة بما يجب فعله، وكل فراغ هو مهمة مؤجلة. يتحول اليوم إلى مطاردة ناعمة للزمن، وكأن الساعات تنحدر من بين أصابعه أسرع مما يمكنه الإمساك بها...
هذا ما يسميه علماء الاجتماع “تفتت الزمن المهني (fragmentation temporelle): حيث ينقسم اليوم إلى مقاطع صغيرة لا يكفي أي منها لإنجاز شيء كامل، ولا يترك أحدها مجالا للتنفس. أما علماء النفس فيتحدثون عن “الضغط الزمني المزمن” (stress temporel chronique)، وهو الشعور المستمر بأنك “متأخر حتى لو كنت في الموعد"..
تمر الحصص مثل أمواج متلاحقة: شرح، أسئلة، انقطاعات، مهام مستعجلة، وبين كل موجة وأخرى، جرس يعلن بداية جديدة قبل أن تنتهي السابقة. ثم تضاف إلى ذلك: واجبات يجب تصحيحها - لوائح يجب ملؤها - رسائل هاتفية تنتظر ردا - اجتماعات تعقد في آخر اليوم - تقارير لا تحتمل التأجيل... وهكذا يتحول كل جزء من النهار إلى تدبير للأولويات قبل تدبير الذات.
هكذا يصبح الزمن خصما. فمع مرور الوقت، يتحول الإحساس بضغط الساعات إلى شكل من أشكال القلق الصامت: استيقاظ متعجل، هرولة بين الحصص، ودقائق مهدورة في الممرات تحتسب من رصيد طاقته لا من رصيد العمل.... هذا القلق يجعل المدرس يعيش حالة “التهديد الزمني” (menace temporelle)، حيث يبدو وكأن الزمن يراقبه أكثر مما يراقب هو الزمن. يستشعر اللحظة قبل حدوثها، كأنه في سباق صامت لا خط نهاية له.
وفي غياب تنظيم مؤسسي يحمي وقته الذهني، يتحول البيت إلى امتداد للمؤسسة: تحضير ليلا، تصحيح فجرا،
وإحساس مزمن بأن اليوم لا يبدأ ولا ينتهي، بل يتكرر كدائرة محكمة لا هوامش فيها.
أحد الزملاء روى أنه مر بأسبوع لم ينم فيه أكثر من أربع ساعات يوميا، كان يصحو فجرا ليكمل التصحيح، ويقضي الليل في إعداد الدروس، حتى بدأ يشعر أنه يعيش داخل حلقة زمنية مغلقة، كمن يركض في حجرة بلا أبواب. وفي المؤسسة تتكرر حالات يعيشها بشكل دائم:
- انتظار عشرات التلاميذ أمام المكتب بين الحصص، بينما يحتاج المدرس دقيقة واحدة لالتقاط أنفاسه.
- استدعاءات مفاجئة أثناء الدرس: “المدير يريدك الآن”.
- اجتماعات تمتد لساعات، تعتدي على الزمن المخصص للتحضير والراحة.
- تكدس المهام في نهاية الدورة: إعداد الامتحانات، تقويمات، تصحيحات، تقارير، تعبئة النقط ووو..
- تخصيص أوقات من أيام العطل لإتمام “مهام مستعجلة” لا تتحمل التأجيل.
كل هذه التفاصيل الصغيرة تخلق بنية خفية من استنزاف الزمن، تجعل كل يوم أثقل من سابقه.
ليس الاختناق الزمني مجرد كثافة في البرنامج، بل اختفاء الهامش الإنساني بين اللحظات. وحين يضيق الزمن على المدرس إلى حد الاختناق، يستمر رغم ذلك، كمن يتنفس من مساحة ضيقة داخل ساعة رملية، ويحافظ على صوته حتى لا يغرق في صمت الواجب...
google-playkhamsatmostaqltradent