لم يكن التوجيه التربوي يوما مجرد
حصص دراسية ولا وظيفة إدارية، بل هو ركيزة أساسية في أي منظومة تعليمية حديثة،
تروم تمكين التلميذات والتلاميذ من بناء مشارعهم الشخصية ومساراتهم الدراسية
والمهنية في انسجام مع قدراتهم وطموحاتهم. وفي سياق الإصلاح التربوي الذي تشهده مملكتنا
الحبيبة تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة محمد السادس نصره الله، جاء النظام
الأساسي الجديد لموظفي وزارة التربية الوطنية لسنة 2023 ليمنح أطر التوجيه التربوي
مكانة مرموقة، واضعا إياهم في صلب العملية التربوية كخبراء ومستشارين وشركاء
أساسيين في إنجاح المشروع الشخصي للمتعلم. لكن، مع صدور المذكرة الوزارية رقم
094/25، ظهر وكأننا أمام قفزة في المكان الخاطئ؛ قفزة أعادت هذه الأطر إلى مربع
الإكراه الإداري، وضربت عرض الحائط بالمنطق التربوي الذي أراد النظام الأساسي الجديد
ترسيخه. فوجدنا أنفسنا مجبرين لقراءة هذه المذكرة ، التي أتت -حسب رأينا
المتواضع- ببدعة تربوية جديدة سمتها ب "مشروع التوجيه"، قراءة تحليلية
نقدية ومقارنها بمستجدات النظام الأساسي الذي يمثل الإطار القانوني والتنظيمي المحدد
لحقوق وواجبات جميع موظفي القطاع، بدءًا من تعيينهم إلى تقاعدهم، كما يوحد
مساراتهم المهنية ويضمن المساواة في الحقوق والواجبات، ويرسخ مبادئ الكفاءة
والإنصاف، ويوفر آليات جديدة للتحفيز والحكامة في المدرسة العمومية، والمقرر
الوزاري رقم 007.22 بتاريخ 09 مارس 2022 بشأن المصادقة على الإطار المرجعي
للمواكبة التخصصية للمشروع الشخصي للمتعلم بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي.
أولاً: الديباجة القانونية
والسياق العام
نظرا
لأهمية التوجيه التربوي في مواكبة المتعلمات والمتعلمين لبلورة مشاريعهم الشخصية
بغية تيسير اندماجهم في المجتمع، ولا سيما المواكبة التخصصية التي أنيطت بأطر
التوجيه التربوي ، عملت الوزارة على تكوينهم تكوينا علميا رصينا بهدف تحسين نسب
التأطير بالقطاعات المدرسية للتوجيه وتحقيق مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص لاستفادة
جميع المتعلمات والمتعلمين من خدمات التوجيه المدرسي والمهني داخل المؤسسات الثانوية بسلكيها الإعدادي والتأهيلي
وفق الضوابط التي حددتها المذكر 17/022 في شأن تنظيم العمل بالقطاعات المدرسية
للتوجيه.
ومنذ
صدور النظام الأساسي الجديد لموظفي وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي
والرياضة في شتنبر 2023، أصبح من الضروري أن تنسجم جميع المذكرات التنظيمية
والممارسات الميدانية مع فلسفته الجديدة، القائمة على مقاربة مهنية تؤطر مهام
الفاعلين التربويين وفق منظور الجودة والإنصاف والكفاءة.
وفي هذا
السياق، أصدرت الوزارة المذكرة رقم 25/094 يوم 03 أكتوبر 2025 بشأن تعميم برنامج
المواكبة النفسية والاجتماعية وتنظيم ورشات تنمية المهارات النفسية الاجتماعية
بالإعداديات الرائدة برسم الموسم الدراسي 2025/2026، قصد تجويد الممارسة التربوية بتعزيز
البعد النفسي والاجتماعي للتلميذات والتلاميذ، وتحسين المناخ الدراسي، وتقوية
ارتباطهم بالمدرسة كفضاء للتعلم والحياة المشتركة.
ثانياً: التناقضات مع النظام الأساسي الجديد
رغم نبل
أهداف المذكرة 25/094
المعلنة، إلا أن قراءة وتحليل مضامينها كشف لنا عن ثغرات تنظيمية ومنهجية تمس جوهر
مهام أطر التوجيه التربوي، كما وردت في النظام الأساسي وفي الإطار المرجعي
للمواكبة التخصصية للمشروع الشخصي للمتعلم (المقرر الوزاري رقم 007.22 بتاريخ 09
مارس 2022)، سنختصرها في النقط الآتية:
1. الإطار المرجعي المذكور حدّد بشكل دقيق المهام
التخصصية للمواكبة التخصصية، مؤكّدًا على الدور الاستشاري لإطار التوجيه التربوي،
وليس الدور الإداري التنفيذي كما توحي به مقتضيات المذكرة؛
2. من "مواكبة المشروع الشخصي للمتعلم" إلى البدعة
التربوية "مشروع التوجيه": وهو يشكل اجتثاث الإطار المرجعي وتناقض صارخ
في المصطلح نفسه؛ حيث عملت الوزارة، على مدى سنوات، على بناء وتعميم "الإطار
المرجعي للمواكبة التخصصية للمشروع الشخصي للمتعلم (ة)"، وهو إطار تربوي دقيق
يركز على الفردانية، والاستماع الفعّال، وتشخيص الحاجات، ومرافقة المتعلم(ة) في
رحلة طويلة وبنّاءة لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن مستقبله. هذا الإطار يجعل من
المستشار التربوي "مرافقاً" و "موجهاً" يضع المتعلم في مركز
اهتمامه. وجاءت المذكرة لتستبدل هذا المنهج المتجذر بـ "مشروع التوجيه"،
وهو مفهوم غامض ومرن لدرجة الفراغ. فبدلاً من أن يكون المشروع شخصياً للمتعلم(ة)،
أصبح "مشروعاً" للمؤسسة أو للمستشار نفسه، يُطلب منه إنجازه وتقديمه
كمنتج نهائي. هذا التحول ليس مجرد تغيير في التسمية، بل هو انقلاب جوهري على
المفهوم.
لقد تم تحويل عملية إنسانية معقدة
(بناء المستقبل) إلى مشروع إداري له أهدافه المحددة مسبقاً وآلياته التقويمية
الشكلية، مما يفقده جوهره وعمقه التربوي. إنها ضربة قاضية للإطار المرجعي الذي كان
ينبغي أن يكون البوصلة؛
3. تحول الدور من المستشار الخبير إلى المنفذ الآلي
للتعليمات: فإذا كان النظام الأساسي الجديد يرسم صورة لإطار التوجيه التربوي كخبير
استشاري يشارك في المجالس، ويستشار من طرف جميع الأطر، ويبني علاقات شراكة مع
الأسرة والمجتمع...، فإن المذكرة 094/25 أعادته إلى حيز ضيق ومُهين.؛ حيث تم تجريد
دوره من بعده الاستشاري والتحليلي والاستثماري، وتحويله إلى منفذ لأوامر إدارية
محضة. فمهمته إذا، لم تعد تشخيص الوضعيات، واستثمار النتائج الدراسية واقتراح
الحلول، وبناء الثقة مع التلميذات والتلاميذ، بل أصبحت تتمحور حول:
ü
توزيع
استمارات وروائز جاهزة؛
ü
تنظيم
حصص جماعية نمطية، يُفترض أنها تفي باحتياجات آلاف التلميذات والتلاميذ المتباينة؛
ü
كتابة
تقارير وملء وثائق إثباتية لإنجاز البدعة التربوية الجديدة "مشروع
التوجيه"؛
ü
الاستجابة
لطلبات إدارية عاجلة، على حساب المهام التربوية الأساسية.
وهو
تقنين سيقتل -وبدون شك- مبادرة أطر التوجيه التربوي، ويسحق (إن صح التعبير) البعد
الإنساني في مهماتهم، ويحولهم إلى مجرد حلقة في سلسلة إدارية بيروقراطية، بدلاً من
أن يبقوا منارة استشارة وتوجيه ومواكبة تخصصية للتلميذات والتلاميذ باعتبارهم محور
العملية التعليمية التعلمية.
4. عندما تتجاوز الأرقام المنطق: إن أخطر ما في هذه
المذكرة ليس فقط انحرافها التربوي، بل تجاهلها التام للواقع الميداني المأساوي
الذي يعيشه أطر التوجيه التربوي. إن الحديث عن مواكبة فردية، أو حتى عن إنجاز بدعة
"مشروع توجيه"، في ظل نسبة تأطير تتراوح بين 1600 و4000 تلميذة وتلميذ،
هو حديث يخرج عن نطاق المعقول ويدخل في باب الخيال. لنفكر في الأمر بالخشيبات (لغة الأرقام
البسيطة):
إذا افترضنا -جدلا- أن إطار التوجيه التربوي
يعمل 30 ساعة أسبوعياً مع التلاميذ (بعد استبعاد المهام الإدارية الأخرى)، فإن
وقته مع كل تلميذ في أحسن الأحوال لا يتجاوز بضع دقائق في السنة. كيف يمكن لهذه
الدقائق أن تشكل "مواكبة تخصصية" أو تبني علاقة ثقة؟ وكيف يمكن لإطار
التوجيه التربوي الذي يتنقل بين ثلاث أو أربع مؤسسات تعليمية متباعدة جغرافياً أن
يقدم أي شكل من أشكال الدعم الفعلي؟
يعتبر "مشروع التوجيه"،
في هذا السياق، وهما إداريا شكليا، سيتم إنجازه على رقميا وورقيا فقط، وسيصبح إطار
التوجيه التربوي مجرد موظف مشغول بتعبئة الخانات، وتقديم تقارير وهمية تثبت أن
"العمل قد تم"، بينما الواقع -على أرض الميدان) هو تلميذات وتلاميذ
يتيهون في متاهات المستقبل دون مستشار وموجه ومواكب حقيقي. إنها مقامرة بمستقبل أجيل
كاملة.
خاتمة:
إن المذكرة
الوزارية 094/25، في صيغتها الحالية، تمثل تراجعاً خطيراً عن الروح الإصلاحية التي
حملها النظام الأساسي الجديد. إنها ليست مجرد وثيقة تنظيمية، بل هي بيان بفشل رؤية
تربوية واضحة. فبدلاً من تمكين أطر التوجيه التربوي وتفعيل بنود المادة 76 بعد
استيفاء كل الشروط (تقديم الطلبات والتكوين بصيغتيه الحضورية والتناظرية عن بعد في
ثمان وحدات، لا بأس أن نذكر بها من جهلها: تعميق التخصص، سوسيولوجيا التنظيمات،
مشروع المؤسسة المندمج، التقويم المؤسساتي، التفتيش والافتحاص، التأطير والمواكبة،
تقنيات التوثيق والترصيد والتقصي، الوساطة في الوسط المدرسي، ومناقشة
التقارير)، وتوفير الشروط الموضوعية لعملهم، تم اختيار أسهل الطرق: فرض نموذج
إداري موحد ومجرد من أي روح.
ختاما، إن
مصداقية المنظومة التربوية على المحك. فإما أن نختار طريقاً جاداً يعزز مكانة إطار
التوجيه التربوي كخبير تربوي مبدع ومرافق (مستشار، موجه، مواكب)، وإما أن نواصل في
مسار التقني المنفذ الذي سيحول التوجيه إلى مجرد حبر على ورق، ويترك تلميذاتنا وتلاميذنا
يواجهون مصيرهم بمفردهم. فهل تملك الوزارة الشجاعة لمراجعة هذه المذكرة، والعودة
إلى جوهر المهنة التربوية، وتفعيل المادة 76 من النظام الأساسي المكتملة الأركان دون
قيد ولا شرط باعتبارها حقا، والحق يعلو ولا يُعلى عليه؟ هذه أسئلة جوهرية تطرح نفسها بإلحاح.
المراجع:
-
المادة
76 من النظام الأساسي للخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية.
-
المذكرة
24/5016 في شأن المواكبة التخصصية للمشاريع الشخصية للمتعلمين بالمؤسسات الثانوية.
-
المذكرة
الوزارية 17/022 في شأن تنظيم العمل بالقطاعات المدرسية للتوجيه.
-
المقرر
الوزاري رقم 007.22 بتاريخ 09 مارس 2022 بشأن المصادقة على الإطار المرجعي
للمواكبة التخصصية للمشروع الشخصي للمتعلم بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي.
-
النظام
الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية.
-
الوزارة
المذكرة رقم 25/094 يوم 03 أكتوبر 2025 بشأن تعميم برنامج المواكبة النفسية
والاجتماعية وتنظيم ورشات تنمية المهارات النفسية الاجتماعية بالإعداديات الرائدة
برسم الموسم الدراسي 2025/2026.
[1] إطار في التوجيه التربوي،
باحث في مجال اللسانيات الحاسوبية وتحديات الذكاء الاصطناعي. له عدة مقالات علمية
أخرها: "اللغة العربية والذكاء الاصطناعي: الحدود والتجاوز -تطبيق شات
جي بي تي نموذجا"(اللغة والذكاء الاصطناعي سياقات التفكير في
العربية -بحوث ندوة دولية محكمة و"المناهج
الدراسية المغربية: واقعها وآفاقها بين الجهوية التربوية المتقدمة والتنمية
المستدامة" مجلة التربية والتنمية تصورات ومقاربات حول إرساء
الجهوية-التربوية المتقدمة، دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، 2025