recent
آخر المواضيع

بحوث الإجازة والماستر ليست مجرد تمرين شكلي عابر في حياة الطلبة بل محطة مفصلية

 
إلغاء بحوث الإجازة والماستر وتعويضها بتداريب ميدانية داخل الجامعة العمومية المغربية قد يكون له ما يبرره في بعض التخصصات العلمية ذات الطابع المهني الصرف كالطب والهندسة وغيرها من الحقول العلمية المشابهة، حيث تُشكل التجربة العلمية العملية أساسًا لتزويد الطالب بالمهارات التطبيقية اللازمة، تسعفه على الاندماج المباشر في سوق الشغل.

غير أنّ تعميم هذا الخيار على مختلف التخصصات، بما فيها العلوم القانونية والاجتماعية والإنسانية، ينطوي على مجازفة غير محسوبة العواقب، إذ من شأنه أن يُفرغ الجامعة العمومية من وظيفتها الجوهرية باعتبارها فضاءً لإنتاج المعرفة، وحاضنة لتوليد الأفكار، ومجالًا لتطوير ملكة التحليل، ومنبتًا لصقل أدوات النقد لدى الطلبة.

إن التعامل مع الجامعة العمومية بمنطق التكوين المهني الصرف رغم أهميته يُهدد رسالتها العلمية والفكرية والأكاديمية، ويجعلنا أمام جيل قد يتقن بعض المهارات التقنية، لكنه بكل تأكيد سيعجز عن إنتاج فكرة، أو إبداء موقف تجاه مسألة معينة، أو حتى فهمها واستيعاب أبعادها.

الحقيقة أنّ الإشكال لم يكن يومًا في بحوث الإجازة والماستر حتى نبرر التخلي عنها، بل كان الأسلم أن تُعزَّز هذه البحوث بتداريب ميدانية موازية ومكملة، حتى يكتمل التأطير النظري بالتكوين التطبيقي لدى الطالب. وذلك من خلال حث المؤسسات العمومية المرتبطة بهذه البحوث، بالتعاون مع الطلبة الباحثين، وتمكينهم من المعلومات والمعطيات والمصادر الضرورية لإغناء بحوثهم وإثرائها.

لأن بحوث الإجازة والماستر ليست مجرد تمرين شكلي عابر في حياة الطلبة بل محطة مفصلية في مسارهم الأكاديمي وتمرين حقيقي لاختبار قدراتهم العلمية والمنهجية والتحليلة. فمن خلالها يتدرّب الطالب الباحث على امتلاك حرفة البحث العلمي، ويكتسب أدوات التوثيق والتحليل والنقد، كما تُنمّي لديه روح الإبداع والابتكار في معالجة القضايا المجتمعية على تعددها وإختلاف مستوياتها.

إن ما يُضعف البحث العلمي داخل الجامعة المغربية العمومية ليس راجعا إلى اعتماد هذه البحوث، بل في عوامل كثيرة ومتعددة، أبرزها الخصاص الكبير في عدد الأساتذة، فضلا عن انعدام التحفيز المادي والمعنوي المتصل بعملية الإشراف والتأطير، بالإضافة إلى عزلة الجامعة عن محيطها المؤسساتي والسياسي، وهي كلها عوامل وغيرها يمكن اختزالها في غياب الإرادة السياسية لدعم البحث العلمي داخل الجامعة العمومية المغربية.

فكثير من الطلبة الباحثين يختارون مواضيع ذات أهمية كبرى تنفتح على قضايا قانونية ومجتمعية ومهنية مرتبطة بمهام ووظائف وأدوار مؤسسات عمومية محددة، لكن بمجرد الانتقال إلى هذه المؤسسات ومحاولة الحصول على المعلومات والمعطيات الضرورية لتعزيز بحوثهم وتجويدها، يُواجهون بالرفض أو بعدم التعاون، مما يُفرغ جهدهم من قيمته العلمية.

وبالنظر إلى ذلك، فإن هذا الاختيار الجديد الذي ينطوي على تسرع غير محسوب العواقب سيواجه تحديات كبيرة، لأن الإدارة العمومية المغربية، التي يُفترض أن تحتضن هذه التداريب، ما تزال تسود داخلها ذهنيات محافظة جدًّا، تعتبر حتى أبسط المعلومات "أسرارًا مهنية". وهو ما سيجعلها، في نهاية المطاف، عائقًا أمام نجاح هذا الخيار بدل أن تكون داعمًا له.

وحتى إن سَلَّمنا جدلًا بأن الإدارة العمومية، والمؤسسات الدستورية، والمقاولات العمومية والخاصة، ستكون مستعدة للتعاون مع الجامعة من خلال احتضان الطلبة الباحثين، يظل السؤال قائمًا، من سيتكفل بتأطير هؤلاء الطلبة داخل هذه المؤسسات، الذين يُعدّون بالآلاف؟ ومن سيشرف على توجيههم وتزويدهم بالمعطيات الضرورية وضمان استفادتهم الفعلية من هذه التداريب؟ إن غياب إجابة دقيقة وواضحة عن هذا السؤال من لدن الوزارة الوصية يؤشر على أن هذا الخيار قد يظل مجرد إجراء شكلي يفتقد لشروط النجاح، ما لم تُحدد له آليات واضحة للتأطير والمتابعة والتنسيق بين الجامعة وهذه المؤسسات.

وخلاصة القول، إن هذا القرار رغم ما قد يبدو في ظاهره من إيجابيات ينطوي في عمقه على تحديات جسيمة، ولن يكتب له النجاح إلا إذا وُضع في إطار إصلاح متكامل، يُواكب بإجراءات دقيقة وواضحة، تضمن التأطير الفعلي للطلبة، وتُحدد المسؤوليات بدقة، وتُقيم جسور تعاون حقيقية بين الجامعة ومحيطها المؤسساتي، فبدون ذلك، سنكون أمام إصلاح شكلي يزيد من تعقيد أزمة الجامعة العمومية بدل أن يسهم في تجاوزها.

ولعلّ تجربة جامعتنا العمومية مع الرقمنة خيرُ مثال على ذلك؛ إذ انخرطت منذ سنوات في مسار تحديث إدارتها ورقمنة خدماتها، غير أنّها ما تزال إلى حدود اليوم تراوح مكانها بين الرقمي والورقي، في ازدواجية تُفقد الإصلاحَ نجاعته، وتُربك الطلبة، وتؤثّر سلبًا على علاقتهم بمرافق مؤسساتهم الجامعية، بل وتُعسِّر عليهم قضاء مصالحهم واستيفاء حقوقهم داخل الحرم الجامعي. وعلى المنوال ذاته، فإنّ قرار إلغاء البحوث وتعويضها بالتداريب الميدانية قد يظلّ حبيس الشعارات ما لم تُرسم له معالم دقيقة وواضحة، تُحدّد أساليب التأطير، وآليات التتبّع، وضمانات التنفيذ.

google-playkhamsatmostaqltradent