يعيش قطاع التعليم العالي في المغرب على وقع جدل متصاعد بعدما شرعت عدد من الجامعات في اعتماد رسوم جديدة لمتابعة الدراسة تحت مسمى التوقيت الميسر ، وهو التوجه الذي أثار موجة من الانتقادات في الأوساط الطلابية والنقابية، وفتح نقاشا عريضا حول مستقبل مجانية التعليم العالي في البلاد. فبينما يؤكد المسؤولون أن الخطوة تدخل ضمن رؤية لتوسيع العرض الجامعي وتجويده، يرى معارضوها أنها تشكل مسا خطيرا بمبدأ تكافؤ الفرص، وأنها محاولة صريحة لـ وضع يد الحكومة في جيوب الطلبة والموظفين ، على حد تعبير بعض النقابيين والبرلمانيين.
هذا المستجد جاء في سياق غير مشجع بالنسبة للمنظومة التعليمية بالمغرب، حيث كشف تقرير مؤشر العدالة العالمية لسنة 2024، الصادر عن معهد الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية بجامعة فودان في شنغهاي يوم 3 شتنبر 2025، أن المغرب حل في المرتبة 110 عالميا في مجال التعليم من أصل 182 دولة شملها التصنيف، وهو تراجع يعكس عمق الأزمة التي يعيشها هذا القطاع الحيوي. التقرير أبرز أن دول الشمال الأوروبي تصدرت الترتيب بفضل قوة نظمها التعليمية، حيث جاءت فنلندا في المرتبة الأولى متبوعة بالسويد في المرتبة الثانية، بينما برزت دول آسيوية ككوريا الجنوبية التي حلت رابعا واليابان سادسا ضمن العشرة الأوائل. وعلى المستوى الإقليمي، تقدمت قطر إلى المركز 45 والإمارات إلى المرتبة 52، في حين جاءت جنوب إفريقيا في المركز 88، وهو ما يضع المغرب في مرتبة متأخرة مقارنة بالعديد من دول المنطقة.
ورغم هذا التراجع في التعليم، فقد سجل المغرب تقدما ملحوظا في مجال حفظ السلام العالمي، إذ احتل المركز 18 من أصل 198 دولة، بفضل مشاركته في عدد من بعثات الأمم المتحدة في القارة الإفريقية، على غرار جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والكونغو الديمقراطية وجنوب السودان. التقرير أشار إلى أن المملكة تعتبر من أكثر الدول الإفريقية نشاطا في هذا المجال إلى جانب رواندا ومصر وغانا، بينما تصدرت الصين والولايات المتحدة وبنغلاديش التصنيف العالمي. أما على مستوى المساعدات الإنسانية، فجاء المغرب في المرتبة 56 عالميا، متأخرا عن بلدان مثل السعودية التي احتلت المرتبة الثامنة والإمارات التي حلت في المركز 18، في وقت حافظت فيه الولايات المتحدة على الصدارة.
غير أن اللافت في التقرير أن المغرب احتل مراتب متأخرة في مجالات حيوية أخرى، مثل مكافحة التغير المناخي حيث حل في المرتبة 135، وحماية النساء والأطفال حيث جاء في المركز 121، إلى جانب المرتبة 75 في مكافحة الفقر. وهو ما يعكس هشاشة الوضع الاجتماعي وضرورة إعادة ترتيب أولويات السياسات العمومية. التقرير شدد على أن العدالة العالمية ليست شأنا ماليا أو عسكريا فقط، بل هي منظومة شاملة ترتكز على الحقوق الأساسية والخدمات العامة والالتزامات الأخلاقية، ما يضع المغرب أمام تحديات مضاعفة.
وفي خضم هذا السياق، أثارت الرسوم الجديدة التي أقرتها بعض الجامعات غضبا واسعا، حيث وجهت فاطمة التامني، النائبة البرلمانية عن حزب فدرالية اليسار الديمقراطي، سؤالا كتابيا إلى وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عز الدين ميداوي، تطالب فيه بتوضيحات حول ما وصفته بـ العبث الذي يضرب مجانية التعليم العالي. التامني أوضحت أن الوزارة تتجه إلى فرض متابعة الموظفين والأجراء لدراستهم الجامعية حصرا عبر نظام التوقيت الميسر مقابل أداء مالي، معتبرة أن الخطوة تحمل أبعادا اجتماعية واقتصادية خطيرة.
ووفق ما كشفته النائبة، فإن مجلس التدبير بجامعة ابن زهر بأكادير صادق بتاريخ 11 غشت الماضي على فرض رسوم جديدة شملت جميع الأسلاك، حيث بلغت 6000 درهم للإجازة و15 ألف درهم للماستر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مقابل 7 آلاف درهم للإجازة و17 ألف درهم للماستر بكلية العلوم والتقنيات، إضافة إلى 10 آلاف درهم لمتابعة الدكتوراه. هذا النموذج، تضيف التامني، لم يبق معزولا، إذ إن عددا من الجامعات الأخرى سارت على نفس النهج، بل إن بعضها سبقت إلى فرض رسوم في السنوات الماضية، مثل جامعة محمد الخامس بالرباط.
المعارضون يرون أن هذه الخطوة تهدد بإقصاء فئات واسعة من متابعة دراستها الجامعية بسبب العجز عن تحمل التكاليف، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها العديد من الموظفين والأجراء. ويعتبرون أن فرض هذه الرسوم يشكل تكريسا لمنطق المتاجرة في التعليم العالي وضربا لمبدأ تكافؤ الفرص الذي يفترض أن يشكل قاعدة أساسية لأي منظومة تعليمية عادلة. الأصوات الرافضة أكدت أيضا أن التعليم العالي ظل تاريخيا أحد آخر المجالات التي حافظت على طابعه العمومي المجاني في المغرب، وأن المساس بهذه المجانية هو بمثابة سابقة خطيرة قد تفتح الباب أمام خطوات أكثر جرأة في المستقبل.
الجدل القائم حول مجانية التعليم العالي لا ينفصل عن أزمة أعمق يعيشها القطاع، كما تؤكده الأرقام الدولية الأخيرة التي وضعت المغرب في مراتب متأخرة. وبينما تبذل البلاد جهودا على أصعدة أخرى، مثل حفظ السلام العالمي أو تقديم مساعدات إنسانية، فإن استمرار التراجع في التعليم والصحة ومجالات العدالة الاجتماعية يطرح أكثر من سؤال حول النموذج التنموي المعتمد، ومدى قدرته على الاستجابة لتطلعات المواطنين، خصوصا الشباب الذين يمثلون العمود الفقري لأي نهضة مجتمعية.