يعد لغز تعلم اللغة أحد الموضوعات المثيرة في علم الأعصاب، فكيف يمكن للدماغ البشري تعلم عدة لغات في فترة زمنية قصيرة؟ لماذا يكون تعلم بعض اللغات أسهل من غيرها؟
سنعرف في هذا المقال كيف يتعلم الدماغ اللغات، وكيف يخزن الدماغ ويسترجع المعلومات اللغوية، ولماذا يرتبط تعلم لغة جديدة ببعض العمليات العصبية المعقدة.
سنستعرض أيضاً الطرائق التي يتعلم بها الأطفال والكبار اللغات، والعوامل التي تؤثر في تعلم اللغة في مراحل مختلفة من الحياة.
كيف يتعلم الدماغ اللغات؟
تخيَّل دماغك بوصفه مدينة كبيرة جداً، وكل جزء فيها له وظيفة محددة، فعندما نتعلم لغة، تعمل مناطق مختلفة معاً في تناغم مثالي:
منطقة بروكا (Broca's Area): تقع في الجزء الأمامي من الدماغ، وهي "مدير الإنتاج" المسؤول عن إنتاج الكلام وتنظيم تراكيب الجمل (القواعد النحوية).
منطقة فيرنيك (Wernicke's Area): تقع في الجزء الخلفي، وهي بمنزلة "المترجم الفوري" الذي يساعدنا على فهم اللغة المسموعة والمكتوبة.
القشرة السمعية (Auditory Cortex): هي "جهاز الاستقبال" الصوتي الذي يميز أصوات الكلام عن الضوضاء.
الفص الجبهي (Frontal Lobe): يُشارك في التخطيط، والذاكرة العاملة، واختيار الكلمات المناسبة.
الحصين (Hippocampus): هذا الجزء حيوي للذاكرة، ويخزن الكلمات الجديدة والقواعد اللغوية.
يبني الدماغ عند تعلم لغة جديدة اتصالات عصبية جديدة ويُقوي الموجودة؛ إذ تبدأ هذه المسارات بوصفها طرقات وعرة، ولكن مع الممارسة، تتحول إلى طرقات سريعة وسلسة، مما يجعل اللغة أسهل وأكثر طلاقة.
لماذا يتعلم الدماغ بعض اللغات أسرع من غيرها؟
تؤدي عدة عوامل دوراً في سرعة تعلم اللغة:
1. العمر
هذه هي النقطة الأهم؛ لأنَّ الأطفال الصغار لديهم مرونة دماغية مذهلة (Neuroplasticity) تسمح لهم باكتساب أية لغة اكتساباً حدسياً وبسهولة، أمَّا الكبار، فيحتاجون لجهد واعٍ أكبر؛ لأنَّ مرونة الدماغ تقل.
2. التشابه اللغوي
سيكون التعلم أسرع إذا كانت اللغة الجديدة تشبه لغتك الأم أو لغة أخرى تعرفها (في المفردات أو القواعد).
3. التعرض والاندماج
زادت سرعة التعلم كلما زادت فرص التعرض للغة (سماعاً، وقراءة، وحديثاً) والاندماج في بيئتها.
4. الدافع والاهتمام
يشكل الشغف باللغة أو الثقافة المرتبطة بها دافعاً قوياً يُسرِّع من عملية التعلم.
5. مدى تعقيد اللغة
تتطلب اللغات ذات القواعد النحوية أو الأنظمة الصوتية المعقدة وقتاً وجهداً أكبر.
لغز تعلم اللغة: كيف يستوعب الدماغ أكثر من لغة؟
قد تتساءلون كيف يتعلم الدماغ لغة جديدة؟ وفي الحقيقة فإنَّ قدرة الدماغ على استيعاب لغات متعددة هي لغز حقيقي، فالدماغ لا يبني "جزراً" منفصلة لكل لغة؛ بل يطور شبكات عصبية أكثر كثافة وتعقيداً تسمح له بإدارة لغات متعددة ببراعة.
وعندما يتحدث الشخص بلغته الثانية، فإنَّ دماغه يُنشِّط كل اللغات التي يعرفها في الخلفية، ثم يستخدم آلية قوية لـ "تثبيط" أو "كبح" اللغة التي لا يحتاجها في تلك اللحظة، وهذه العملية المستمرة تُعد تمريناً عقلياً ممتازاً يُعزز مرونة الدماغ ويوضح كيف يستطيع الدماغ فهم عدة لغات؟
تأثير ثنائية اللغة في الدماغ والذاكرة
كشفت دراسات ثنائية اللغة عن فوائد مذهلة للدماغ تتجاوز مجرد التواصل:
1. تحسين الوظائف التنفيذية
مثل التحكم في الانتباه، وحل المشكلات، والتبديل بين المهام بمرونة، والذاكرة العاملة، فثنائيو اللغة غالباً ما يكون أداؤهم أفضل في هذه المهارات بفضل التمرين المستمر لآليات التحكم اللغوي.
2. تأخير ظهور الخرف
تشير الأبحاث إلى أنَّ ثنائية اللغة، قد تؤخِّر ظهور أعراض الخرف، بما في ذلك مرض الزهايمر، لعدة سنوات (تصل إلى 4-5 سنوات)، واستخدام لغتين أو أكثر يبني ما يُعرف بـ "الاحتياطي المعرفي" (Cognitive Reserve)، وهي مرونة ذهنية تساعد الدماغ على مقاومة آثار التلف.
3. تحسين الذاكرة
تعد عملية تخزين واسترجاع المفردات والقواعد المتعددة تمريناً جيداً للذاكرة عموماً.
4. تعزيز الوعي الميتا-لغوي
القدرة على التفكير في اللغة نفسها وكيف تعمل، مما يساعد على تعلم لغات أخرى مستقبلاً.
كيف يؤثر تعلم اللغة في الدماغ؟
لا يعد تعلم لغة جديدة مجرد إضافة مهارة؛ بل إنَّه تغيير حقيقي في بنية ووظائف دماغك.
تطور الدماغ في تعلم اللغات
1. زيادة المادة الرمادية
أظهرت دراسات التصوير الدماغي أنَّ تعلم اللغة، يزيد حجم وكثافة المادة الرمادية في مناطق الدماغ المسؤولة عن معالجة اللغة، مما يعني أنَّ دماغك يصبح أكثر كفاءة.
2. تحسين الاتصالات العصبية
تُعزز الروابط والمسارات العصبية بين مناطق الدماغ المختلفة، مما يجعل معالجة المعلومات أسرع وأكثر فعالية.
3. زيادة المرونة العصبية (Neuroplasticity)
يحفز تعلم اللغات هذه المرونة كثيراً، مما يجعل الدماغ أكثر قدرة على التكيف والتعلم المستمر في مجالات أخرى أيضاً.
كيف يحسن تعلم اللغة مهارات التفكير والإبداع؟
يمتد تأثير تعلم اللغة ليُحسن من مهارات التفكير والإبداع لدينا:
1. تعزيز التفكير النقدي وحل المشكلات
مرونة التفكير: القدرة على التحول بمرونة بين المهام والتركيز على المعلومات ذات الصلة، وهي مهارة أساسية للتفكير النقدي.
منظورات متعددة: تقدِّم كل لغة "عدسة" فريدة لرؤية العالم، مما يوسع آفاقكِ ويُمكنكِ من التفكير في المشكلات من زوايا مختلفة.
2. تحسين مهارات اتخاذ القرار
يقلل التفكير بلغة أجنبية من تأثير التحيزات العاطفية، مما يؤدي إلى قرارات أكثر عقلانية.
3. زيادة الإبداع والأصالة
من خلال:
التفكير التباعدي: القدرة على توليد أفكار وحلول متعددة، فمتعددو اللغات لديهم مخزون أكبر من الكلمات والمفاهيم التي تمكِّنهم من الربط بين الأفكار وإنتاج حلول مبتكرة.
المرونة المعرفية: القدرة على التكيف مع المواقف الجديدة والتفكير خارج الصندوق، مما يعزز الإبداع.
العوامل التي تؤثر في تعلم اللغة بسرعة
بعد أن فهمنا كيف يتعلم الدماغ اللغات، يجب فهم العوامل التي تؤثر في تعلم اللغة بسرعة، فهو يُحسن استراتيجيات التعلم، وإليكم أبرز ما يؤثر في تعلم اللغات من خلال الدماغ.
دور البيئة في تعلم اللغة: المحيط الاجتماعي والتعليمي
البيئة هي التربة التي نزرع فيها بذرة اللغة:
1. الاندماج الكامل (Immersion)
العيش في بيئة تتحدث اللغة يُسرِّع من اكتسابها، فيُعالجها الدماغ باستمرار.
2. جودة التعليم
توفر الدورات والمعلمون الجيدون منهجاً فعالاً وبيئة داعمة للتدريب.
3. المحيط الاجتماعي للممارسة
يعد وجود أصدقاء أو عائلة يتحدثون اللغة ويشجعون على الممارسة المنتظمة عاملاً قوياً جداً في تسريع التعلم وتقليل الخوف من الأخطاء.
4. التعرض للمواد الثقافية
تغمرك الأفلام، والموسيقى، والكتب في الثقافة وتُعزز فهمك للغة.
كيف يؤثر العمر في تعلم اللغة؟
يُعد العمر من أقوى العوامل:
1. مرونة الدماغ في الطفولة
أدمغة الأطفال الصغار مرنة مرونة مذهلة ومُهيأة لاكتساب اللغة بسهولة ودون جهد واعٍ كبير.
2. تصلُّب المسارات العصبية مع التقدم في العمر
تقلُّ مرونة الدماغ مع التقدم في العمر، ويصبح التعلم أكثر جهداً ووعياً، وقد يصعب اكتساب النطق الأصيل تماماً.
إقرأ أيضاً: 8 نصائح تساعدك على تعلّم اللغات الأجنبية بسهولة
تأثير الدوافع الشخصية والاهتمامات في سرعة التعلم
تؤدي الدوافع الشخصية والاهتمامات دوراً حاسماً ومحورياً في سرعة وكفاءة تعلم لغة جديدة، فهي المحرِّك الأساسي الذي يدفع المتعلم للاستمرار والمثابرة رغم التحديات، وتقسَّم هذه الدوافع إلى نوعين رئيسين:
1. الدوافع الداخلية (Intrinsic Motivation)
هي الدوافع التي تنبع من داخل المتعلم نفسه، وترتبط بالمتعة الشخصية، والفضول، والشعور بالإنجاز الناتج عن عملية التعلم ذاتها، وتُعد هذه الدوافع هي الأقوى في تعلم اللغة:
المتعة الشخصية والفضول: يشعر المتعلم عندما يستمتع بعملية التعلم نفسها بفضول لاستكشاف اللغة وثقافتها، فإنَّه يبذل جهداً أكبر دون أن يشعر بالملل أو الإرهاق.
الرغبة في التواصل: الدافع القوي للتواصل مع متحدثي اللغة الأصليين، أو فهم ثقافتهم، أو تكوين صداقات جديدة.
تطوير الذات والإنجاز: الشعور بالإنجاز عند إتقان مفردة جديدة، أو فهم جملة معقدة، أو إجراء محادثة بسيطة، فهذا الشعور يعزز الثقة بالنفس ويدفع لمزيد من التعلم.
الاهتمامات الشخصية: ربط تعلم اللغة باهتمامات شخصية، مثل:
الأفلام والمسلسلات: الرغبة في مشاهدة الأفلام بلغتها الأصلية دون ترجمة.
الموسيقى: فهم كلمات الأغاني المفضلة.
السفر: القدرة على التواصل بطلاقة عند زيارة بلد يتحدث اللغة.
القراءة: الرغبة في قراءة كتب أو مقالات أو مواقع إلكترونية في مجال الاهتمام بلغتها الأصلية.
الهوايات: تعلم اللغة لممارسة هواية معيَّنة (مثل الطبخ، والفنون القتالية، والألعاب) التي تتطلب معرفة باللغة المستهدفة.
2. الدوافع الخارجية (Extrinsic Motivation)
هي الدوافع التي تنبع من عوامل خارج المتعلم، وغالباً ما تكون مرتبطة بمكافآت أو نتائج ملموسة؛ إذ يمكن أن تكون هذه الدوافع فعالة في بداية التعلم أو في الحفاظ على الزخم، ولكنَّها قد لا تكون مستدامة بقدر الدوافع الداخلية نفسها:
الفرص المهنية: تعلَّم اللغة للحصول على وظيفة أفضل، أو ترقية، أو العمل في شركة دولية.
التعليم: الحاجة إلى اللغة لدخول جامعة معيَّنة، أو الحصول على منحة دراسية.
متطلبات اجتماعية: الضغط من الأهل أو الأقران لتعلم لغة معيَّنة.
الاعتراف والمكافآت: الحصول على درجات عالية، أو شهادات، أو تقدير من الآخرين.
الهروب من العقاب: تعلم اللغة لتجنب الفشل في مادة دراسية.
إقرأ أيضاً: فوائد تعلم اللغات الأجنبية اجتماعياً ونفسياً
في الختام
يعد تعلم اللغات عملية معقدة وجميلة، تنطوي على كثير من الأدوات العصبية التي تساعد الدماغ على استيعاب لغات جديدة. استعرضنا في هذا المقال كيف يتعلم الدماغ اللغات، والآليات العصبية التي تجعل تعلم لغة جديدة ممكناً، بالإضافة إلى كيفية الاستفادة من هذه المعرفة لتسريع تعلم اللغة.