recent
آخر المواضيع

مصير هيئة التوجيه و التخطيط التربوي


 

"ان الأخلاق الصحيحة تهزأ بعلم الأخلاق و تسخر منه"1

في إحدى محاضراته عن الفلسفة الأخلاقية أورد الأستاذ في جامعة هارفارد "مايكل ساندل" قصة حقيقية حدثت خلال  القرن التاسع عشر، القصة تتحدث عن نجاة ركاب سفينة "ميجنونيت"، بعدما تعرضوا لعاصفة هوجاء جنوب المحيط الاطلسي و لجوئهم لقارب النجاة،طاقم السفينة كان مكونا من أربعة أشخاص: القبطان "ديدلي" والمساعد اول "ستيفنز" والبحار "بروكز"، الثلاثة وصفوا بأخلاقهم العالية و بسمعتهم الطيبة ، رابع أفراد الطاقم كان هو الخادم ويدعى "باركر" و كان يبلغ من العمر 17 عاماً يتيما وبلا عائلة، وكانت تلك رحلته الأولى في عرض البحر، ظل الاربعة لأيام وسط المحيط تتقاذفهم الامواج بلا ماء عذب و بعلبتي طعام سرعان ما أتوا عليهما و بعد أيام اقترح القبطان اجراء قرعة للتضحية بأحدهم ليعيش الآخرون لكنه ووجه بالرفض و بعدم "أخلاقية" مقترحه، لكن بعد مرور بضعة أيام أخرى استغل الثلاثة مرض الفتى "باركر" فقاموا بالإجهاز عليه و جعلوا من جسده طعاما لهم الى ان صادفوا سفينة ألمانية أنقذتهم و أوصلتهم الى بر الأمان، للقصة تفاصيل كثيرة لا يتسع المقال لذكرها.

الحادثة و منذ وقوعها خلفت نقاشا و جدالا لم يتوقف فقط عند حدود ما هو قانوني بل تعداه ليشمل الجانب الاخلاقي و من هنا طرح المحاضر للأمر من منظور فلسفة الاخلاق.

عند قراءتي للقصة لم أستطع منع نفسي من التفكير في مجموعة من المقارنات و التقاطعات و حتى الاسقاطات بين قصة السفينة و قصتنا- نحن معشر متدربات ومتدربي مركز التوجيه و التخطيط التربوي - و بينها و بين الوضعية التي وجدنا انفسنا في خضمها، لا ادري لماذا تبادر الى ذهني هذا الامر و انا ارى القوم يضحون بهيئة التوجيه و التخطيط التربوي بجرة قلم، هل الهيئة هي ذلك الخادم "باركر "اليتيم الذي ليست له عائلة تسأل عنه و تثير الصخب لغيابه؟ هل هي ذلك الحائط القصير الذي يسهل تجاوزه؟!....بل الاكثر من ذلك هل التضحية بالهيئة – كما تمت التضحية بذلك اليتيم- يشكل ضمانة لإنقاذ بقية ركاب سفينة "الجنون" التي نركبها جميعا؟ من يضمن لنا بأن غياب الهيئة فيه حياة لباقي " هيئات "المنظومة التربوية...يا ترى هل ستصادف منظومتنا التربوية في احد الايام " سفينة ألمانية "تبحر بها الى شاطئ الامان؟؟؟

بالعودة الى وضعيتنا كمتدربين في التوجيه التربوي و بعد ولوجنا المركز على اساس انتمائنا المستقبلي لهيئة قائمة واضحة المعالم- قبل ان تعصف بها رياح 14 يناير - نواجه عندما ننقل النقاش الى الشق القانوني بلازمة كون الموظف في علاقة تنظيمية بالدولة و كونه هو الذي وجد للوظيفة و ليس العكس لكن ألا يحق لنا التساؤل: اين هي شعارات محورية التوجيه التربوي؟ و اين هي مبادئ العدل و الانصاف؟ ام نحن فعلا ازاء كون " الوظيفة رق القرن العشرين" كما ينسب لعباس محمود العقاد2

وعندما يصر البعض على العودة لإشهار النصوص القانونية المؤطرة للوظيفة العمومية لحشرنا في الزاوية و افراغ مطالبنا من أي محتوى... فبدوري أعود لمناقشة الموضوع من منظور الاخلاق و الاخلاقيات لأقدم دفوعاتي كما يقدمها اي محام مقتنع بعدالة قضيته، الا يعد ما تعرضنا له نوعا من الخداع؟ اين هي هيئتنا التي كنا موعودين بها ؟ لماذا هذه الهجمة الشرسة على هذه  الهيئة؟ هل استحال علاجها و انتفت ادوارها ؟هل تيقن اطباء المنظومة التربوية من ان امراضها لا شفاء لها؟؟ يا ترى أهكذا ينظر القوم لهذه الهيئة ؟ هل تمت استشارة  "ذوي الحقوق" في قرار فصل اجهزة الانعاش عنها؟ هل هو تطبيق عملي للاوتنازيا  Euthanasie في السياق التربوي المغربي؟ لربما هي ذلك "الكائن غير المأسوف على غيابه او موته" كما قال الفيلسوف و الطبيب الفرنسي Georges Canguilhem في تفسيره لمصطلح  Cacothanasie3 .

في بقاع كثيرة من هذا العالم، يعتبر الانتقال للعاصمة للعمل او لمتابعة الدراسة او... نوعا من انواع البحث عن نفس جديد للارتقاء المجتمعي، هو انتقال من الاطراف الى المركز، انتقال من الهامش الى مركز الحدث – خاصة بالنسبة لنا نحن سكان المناطق النائية – هذا الانتقال هو بالتأكيد تغيير لنمط الحياة، تغيير للإيقاع الذي تعودنا عليه، استكشاف لآفاق اخرى و رغبة عميقة في عيش المغامرة بكل تفاصيلها او على الاقل هكذا كان يظن بعضنا ....اجتزت مباراة ولوج مركز التوجيه و التخطيط التربوي صيف 2022 و كلي آمال بالارتقاء بوضعيتي و تغييرها الى الافضل، آثرت التضحية بعطلتي بعد موسم دراسي شاق و طويل استمر الى حدود شهر يوليوز، اجتزت المباراة بشقيها الكتابي و الشفوي، جئت للرباط نهاية شهر غشت للمرة الاولى كمقيم بعد ان كنت ازورها كمجرد عابر، ولجت المركز و كلي حماس لاكتشاف الجديد و عيش المغامرة، طربت كثيرا للأجواء  السائدة و انا اتعامل مع ادارة و اطر المركز  - "مقاعد الدراسة تستهويني" عبارة اتذكرها من نص "المدرسة قديما" الذي درسناه و نحن اطفال ..... سعدت كثيرا بالتعرف على اصدقاء جدد على امتداد مساحة الوطن، استمرت الأمور على ذلك لبعض الوقت، و لان دوام الحال من المحال بدأت الانباء المنغصة في الوصول – ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا   و يأتيك بالأخبار من لم تزود4 – استفقت شخصيا من حلم جميل كنت اعيشه، ما هذا الكابوس ؟ تأتي الجهات المعلومة لتمارس التفتيت5 في حق  الهيئة التي وعدونا بها ...ماذا نفعل هنا؟ البعض بدأ يفكر في الرجوع من حيث أتى، اصبحت و زملائي بالمركز "حالة" تحتاج للدراسة كما تعلمنا في منهجيات البحث التربوي، تحتاج تحليلا نفسيا عميقا كما درسنا في دروس علم النفس، آليات الدفاع التي تعلمناها عند فرويد :الانكار و النكوص حولوها الى هجوم كاسح و شرس على ما اعتقدنا اننا مقبلون عليه بدون تبرير و لا تعويض، صرنا ايضا حالة تحتاج دراسة اقتصادية بين معدلات التضخم العالية و بين انفاق لا نعرف حدوده و بين ما كنا نظن انه استثمار لتحسين الوضعية و تساؤل مشروع عن القيمة المضافة بعد حذف كل هذه "الاستهلاكات الوسيطة" اما الاذخار فيبقى الغائب الأكبر، وضعيتنا هي ايضا وضعية تحتاج الى ارساء معادلات و معاملات جديدة من طرف الاخوة "ستورج" و "يول" و "بيرسن" و "فيشر" علنا نصل الى "احصاء دقيق للخيبات" كما انها وضعية تحتاج برامج معلوماتية غير متوفرة في السوق، و ربما تحتاج ايضا جلسات نفسية متعددة بحضور اختصاصيين نفسانيين لعلاج الاضطرابات النفسية التي بدأت تظهر على بعضنا و نحن نتابع بذهول بعض ما يجري و يدور، نحن الذين كنا نعتقد ان ولوج مركز وطني فريد هو باب من ابواب الترقية، هو فرصة تستحق التضحية بالغالي و النفيس قبل ان ندرك متأخرين انه اضحى صنفا من صنوف العقاب: قرصنة لسنوات الاقدمية و البدء من الصفر، هيئة اعتقدنا اننا مقبلون على الانتماء اليها قبل ان تتبخر – ربما نوجه نداء بخصوصها في برنامج مختفون – مصاريف و نفقات العيش في العاصمة لا تعد و لا تحصى، ضغوطات نفسية عميقة و انت تنظر الى مخرجات التكوين ....باختصار " قتل غير رحيم "6 للآمال و للأحلام، للاطار و للمسار، للمتدرب و للممارس، للحاضر و للمستقبل.                 

 

1.باسكال Pascal اوردها محمد يوسف موسى في كتابه "مباحث في فلسفة الاخلاق "ص.15

2.تنسب لفريديريش نيتشه ايضا عبارة :"اليوم، و كما كان الوضع دائما، ينقسم الناس الى مجموعتين: عبيد و احرار، و من لا يملك ثلثي يومه لنفسه فهو عبد أيا ما كانت وظيفته: رجل دولة، رجل اعمال، موظف او عالم.

و يمكن هنا ايضا الرجوع الى محاضرات المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي عن الفروقات البسيطة بين عبودية الرقيق وعبودية الموظفين، حيث يقول في أحد لقاءاته: "قديما كان الرقيق يباعون و يشترون، أما الآن فإن البشر يؤجرون ولا يوجد فرق كبير بين أن تبيع نفسك وأن تؤجر نفسك"...

3. « Cacothanasie », dont la disparition n’est pas à regretter. — (Georges CanguilhemÉtudes d'histoire et de philosophie des sciences, Septième édition augmentée, 2002)

4.من معلقة طرفة بن العبد

5.ربما يكون العنوان المناسب للمقال :"نكبة هيئة التوجيه و التخطيط التربوي"

6. Dysthanasie : mort douloureuse

    Euthanasie : mort adoucie

google-playkhamsatmostaqltradent